«تنشد عن الحال» جملةٌ تحيل على أغنيةٍ لمحمد عبده. وحضور هذا الفنان في الإعلام، يُثير التاريخَ الفنّي للأغنية السعودية.

لكن بأيّ معنى؟ مقاربتي هنا ترتكز على لفظةِ الحال في جملة محمد عبده؛ من حيث إنّها تلتقي مع «الحال» في العربية؛ إذ قد قال النُحاةُ:

«الحال فضلة»، ويُريدون بذلك أنه ليس ركنًا أساسيًا في الجملة، إذ تستقيم الجملةُ بمعنى مَا دونه؛ كقولنا: (تحدَّثَ محمد عبده، ساخرًا من طلال وأبي بكر سالم)، إلا أنَّ العقائدَ لما تدخَّلت، قَسَّمت الحالَ إلى مُستغنى عنه، وغير مستغنى عنه، أي تَمنعُك من أن تقولَ -مثلا- عن جملة (وما بينهما لاعبين) في آية (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) بأنَّه يمكن حذفها؛ لأنَّك ستقع في إشكالات عقدية. وهنا نُعيد جملةَ محمد عبده بعد تحويلها إلى سؤال: «تنشد عن الحال؟» ونستحضر إطلالتَه في برنامج مراحل؛ بلقاءٍ تجلَّى عنوانُه في مقولة: «تتجلَّى قسوةُ الذاكرة في تذكّر ما يُبدده النسيان».

لهذا يكون لفظُ (ساخرا من طلال وأبي بكر سالم) في رفضِ حذفه -عند الذين تذكروا ما بَدّدَه النسيان- كحال (وما بينهما لاعبين) عند العقائديين؛ إذ تشابهت العقائدُ في تحويلِ التجريد إلى وقائع ومشاحنات، فإن كانَ العقائديون حَوّلوا المعاني اللغوية، إلى صراعٍ واقعي ومذابح على الانتماءات، فإنَّ مُتحزّبي الفن -هنا- حولوا الموسيقى إلى ذاكرةِ مشاحناتٍ تاريخية، فرضتها المسابقةُ نحو الوصول إلى الألحان.

لكن جملة الحال العقائديّة أخذت محمد عبده معها في طريقها نحو ذاكرة المشاحنات؛ ومن هنا لاحظنا أنّه استجابَ لذاكرة المشاحنات؛ وكأنّها جزء لازم من تأصيلِ موسيقى المكان، فصنعت أقوالُ محمد عبده صدى لدى المتابعين -وكأنهم بقايا صوتَيْ طلال وأبي بكر- انبروا فيه للدفاع عن طلال وأبي بكر، بينما تناسوا عبدالمجيد وعبادي وراشد ورابح وخالد، مما يُشير إلى ارتفاع وتيرة المشاحنات والتصاقها في الذاكرة الموسيقية الصلبة في الفن السعودي.

وهنا نضع السؤالَ المهم لصناع الذاكرة الموسيقية لدينا في الإعلام وهو: كيف نؤسس لتاريخٍ موسيقي ثقافي تُميّز به الألحان وتاريخها المرحلي، وجُمَلها المتداخلة أو المبتدعة وعلاقتها بتاريخ الجزيرة بشكلٍ ما؟

فحين يحضر محمد عبده ويُواجَه في أحد اللقاءات عن تشابه لحن أغنية (لو وفيت) مع الموشح الأندلسي؛ ويجيب بناءً على قاعدةٍ عرفية عن مكامن التشابه والإضافات، فإنّنا نُكَوِّن أول لَبنة في الرؤية الخطّية لتاريخية اللحن، ثم يُوَثّق بعدها علاقة هذه الإضافة بتاريخية المكان، أو غير ذلك.

لهذا نجد الحديث في الثقافة الشعبية ينحاز -واعيًا أم غير واعٍ- إلى أنَّ محمد عبده فريدٌ في تعامله مع تراث الجزيرة بوعي مُتَقَسّم على مناطقه الكبرى، وهو ما جعله يُجيب عن مفهوم الأغنية الوطنية عند طلال وأبي بكر، بأنها غير واعية.

أي أنَّ الوطنَ ذاكرةٌ شعبية لا تحتمل العفوية الموسيقية، بل لا بدَّ أن يَسبق الثورةَ نظريةٌ تؤصل لها وتعمل على تنظيمها وإدراك مرامي مستقبلها؛ من خلال صناعة ذاكرة للتراث الغنائي والإيقاعي؛ وهذا ما فعله محمد عبده -بحسب رؤيته- أي أنه يرتكز في التلحين على التراث الجزيري بصورته الكاملة لمناطقه -وهذا شرطه- ومن هنا يأتي دور التوثيق الثقافي في رسم الخط اللحني وتنقلاته، أي لسنا في سياق مشاحنات: مَن سَرق من؟ بل في سياق التأصيل التراثي وإضافاته، وامتدادات الإبداع الحداثي في جذوره؛ ومن ثم يأتي دور النقد في وصف أو تفكيك المُعاد.

ولهذا يلزم أيضًا تأصيل الأغنية عند طلال وأبي بكر من هذا المبدأ، ومن هنا فحين يحضر محمد عبده في لقاءٍ فإنَّ الأسئلة المهمة له، هي تلك التي تكشف للمُشاهد تاريخ هذا التأصيل ورحلة الأغنية الجزيريّة منذ الخمسينات وحتى الآن، لا عن قصة خلافات حصلت منذ خمسين عامًا.

بل نلحظ أنَّ الكتابات النقدية المرتكزة على القوالب الأكاديمية، تقوم على افتراضاتٍ تنحاز إلى المفاضلة بين طلال ومحمد، حتى وإن ادّعت أنها محايدة؛ لننظر -مثلا- لمن تحدثوا عن أنشودة المطر؛ لنرى الافتراضات المسبقة -كذاكرة حميمية مع السياب- بأنَّ الشخصيةَ العبداويّة تُتلف أنشودة السيّاب، وتعطّل دلالاتها. ولكن إن كانت ذبذباتُ أصواتِ الطبيعة غير منتظمة، فهل يمكن تسميتها موسيقية؟

هنا يأتي الوعي الإنساني في تاريخيّته؛ ليفرض شروطه على ما يُنتج؛ وذلك من خلال مواد الطبيعة نفسها؛ أي حتى يصنعَ ذبذباتٍ منتظمة -بحسب إرادة وعي القوي- استخدم آلات من الطبيعة؛ ليضرب عليها الأصوات المفردة والأنغام.

ومن ثمّ فإنَّ الموسيقى في التأطير الواعي مُغايرة للرموز اللغوية التي شَكَّلت تاريخ الأدب وتحولاته؛ فيأتي السؤال: هل حوّل محمد عبده أسطورة السياب إلى أسطورة جزيرية؟

هذا هو السؤال الذي يتوازى مع إنجاز عَملٍ موسيقي خلع فيه محمد عبده عن أنشودة المطر سياقاتها في الأسطورة الأدبية، أما الافتراضات الأكاديمية فهي كي تبقى موضوعية يجب عليها أن تلتزم بالمنهج الذي تتأطر به الدراسة، في مُقارناتها التي تعي معنى الحديث عن الموسيقى، إذ إننا نلحظ أنَّ التحليل يوهم أنه حديث عن الموسيقى، لكننا نرى في تبعات ذلك أنه يُقارن الأبيات التي انتقاها محمد عبده مع أبيات السيّاب، ليخرج بنتيجةٍ هي جزءٌ من تاريخِ المشاحنات، ونرى أنفسنا أمام محمد عبده بصفته أديبًا لا موسيقيًا، ومن ثم تكون الدراسة -نفسها- هي المعتلّة، من خلال أنه يقع في وهم دراسةِ التاريخِ الموسيقي في الجزيرة، لكنَّه ينبش في تاريخ المشاحنات، بتكنيكٍ أكاديمي.

وللمشاحنات أشكال متعددة؛ وهي -هنا- التركيز على ذاكرةِ ذاتية للقصيدة السيّابية، لا عنِ الصنعةِ الموسيقية في تزامنها مع الانتقاء الكلامي وعلاقته بالمكان.

أخيرًا: ربما أنَّ الحديثَ عن تاريخ الأغنية في الجزيرة، أشبه ما يكون بعلاقةِ الألمان في استحضار ماضيهم مع اليهود، أو حين يستحضر يهوديٌ -بشكل لازم ودائم- تاريخَ النازية حين يريد أن يدرس بيتهوفن؛ فيغضَّ الطرف عن اعتمادِه في كثيرٍ من موسيقاه على الرؤية الفلسفية الإغريقية؛ تلك التي تجعل الفنَ يُطهّر العواطف.