يضج عالمنا المعاصر بزخم كبير وواسع من المعلومات التي تتناثر من كل حدب وصوب، ولا يكاد المرء يرفع طرفه إلا وقد انهالت عليه ملايين المصادر التي تحمل أخبارًا عن كل شيء وفي كل تخصص ومهنة، بل إن المعلومات تتقاسمها وسائل حديثة تضم مئات الملايين من المشاهدين والمستمعين والمراقبين والمتأملين بشتى تخصصاتهم وبتنوع مسؤولياتهم سواءً كانوا في جهات حكومية أم جهات خاصة، وإن الإنسان ليحار من شدة ما يرى أو يسمع من تساهل كثير من أحداث الأسنان من أهل هذا العصر لكل ما يبرز لهم من خلال من يُزعم أنهم مشاهير وسائل الاتصال الحديثة (السوشال ميديا)، وهم في نظري المتواضع من أخطر ما يمر على مجتمعاتنا في هدم القيود والقيم وكسر الحواجز الأخلاقية التي ظلت الأمم والمجتمعات في بنائها قرونًا طويلة.

وخطورة تلك المعلومات التي تُصب صبًا على مجتمعاتنا أنها تنفذ بكل سلاسة إلى عقول صغارنا وأحداث الأسنان، ويتم قبول تلك المعلومات دون أي نظر أو تمحيص أو تدقيق أو حتى إعمال للعقل والتأمل في واقعية وحقيقة ما يقال.

ولا شك أن دورات واجتماعات تم عقدها من أجل كيفية التعامل مع ذلك السيل الضخم من المعلومات بيد أن تلك الدورات والاجتماعات كانت ذات رؤى فوقية وأكاديمية، ولم تستطع مواكبة سرعة انتقال وتدفق المعلومات.

بل إن المرء لا يبتعد عن الحقيقة إن زعم أن من ابتكر وسائل الاتصال الحديثة قد كان ولا يزال عاجزًا عن ابتكار ما يحد من خطورتها عدا وسيلة تقليدية وهي المنع والإيقاف والحجز، وأعني بذلك إما وقف أصل الوسيلة الحديثة مثل منع شركة تويتر أو فيس بوك من التداول، أو حجز ومنع أشخاص أو جهات معينة كما تم منع وإيقاف رئيس أكبر دولة في العالم من التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، وهو رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترمب.

وتبرز إشكالية عدم بروز ووضوح المنهجية في تلقي المعلومات في كون تلك المعلومات بشتى أنواعها سواءً كانت أخبارًا تتعلق بالأمور السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية، أو كانت تتعلق تلك المعلومات بأشخاص معينين أو شركات كبرى، في أن تلك المعلومات إذا لم تكن صحيحة أو كانت تتضمن غشًا أو تدليسًا أو طمسًا للحقائق، فإنها تكون مدمرة لكل شيء تأتي عليه، وأنها تُفسد جميع العلاقات وتكبح كل الأسس والأهداف المرسومة التي يسعى إليها من تمت ضده تلك المعلومات المغلوطة.

وإن المنهجية الواضحة التي قررتها الشريعة من خلال القواعد والمقاصد التي أسستها تكمن في عدم الاستعجال في قبول الأخبار والروايات، وأسست لقاعدة منهجية في التعامل مع تلك المعلومات والأخبار والروايات، وهي قاعدة التثبت في تلقِّي الأخبار والتريث فيها وعدم البناء عليها إلا بعد التحقق منها

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾. ويتأسس على هذه القاعدة قواعد وضوابط كثيرة، منها التمحيص والسبر والتحليل لتلك المعلومات، وعدم الأخذ بما يتبادر من تلك المعلومات، وعدم اعتبار الظاهر وإطراحه وذلك لاعتبارات وقرائن تُحيط بسياق أي أمر أو مسألة علمية أو حدث واقعي.

وكل ذلك لهو من الأسس المنهجية العميقة التي قامت عليها علوم كثيرة، سواءً علوم الحديث التقليدية أو علم التأريخ وسبر غور المرويات والقصص التأريخية وعرضها على أسس نقدية تتفق ومقاصد الشريعة وتتساوق مع العقل السليم. وقد ضرب العلماء المتقدمون أروع الأمثلة في منهجيتهم في قبول قول المتكلم أو الفقيه، من خلال تتبع السياقات لمتعلقات تلك الأقوال ومداركها، وسبر غور الأسس التي ينطلق منها صاحب القول أو المذهب المعين (فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها).

وكذلك أسس علماء الأصول والفقه والبلاغة والتفسير، تتبع السياقات عند إرادة معرفة أو فهم حقيقة أي قول أو مذهب، أو حتى عند تفسيرهم لأصول الشريعة سواءً في الكتاب أو السنة.

فالسياق عند علماء الشريعة أشبه بالميزان الذي يوفق بين الدليل الشرعي ومدلوله المراد، وهو الضوء الذي يكشف عن حالة الدليل التي هي المدلولات المحتملة إذا لم يكن نصا، فيخرجه من حيِّز الإشكال إلى حيِّز الوضوح والتجلي، وبالروح التي تُضفي على الدليل حيويته ومرونته في حل المعضلات وتوضيح المجملات وتعيين المحتملات بالنسبة للمخاطب.

هذه بعض القيم الراسخة والمتأصلة لكيفية التعامل مع إشكالية تدفق المعلومات وعدم التسليم لأي خبر أو التفاعل معه قبل التروي والتأني لمعرفة المصداقية الناقلة للأخبار أو المعلومات، وعدم الاعتماد على القنوات والصور والفيديوهات منذ أول برهة، وعدم إصدار الأحكام من أول وهلة بما يتبادر للذهن من خلال رؤية الصورة أو سماع المعلومات، فلا بد من التوثيق والتعامل بمناهج المحدثين وعلماء النقد والأخذ منهم في المنهجية في قبول الأخبار.

عدم تأصيل المنهجية في كيفية التعامل مع تدفق المعلومات لهو نذير شؤم على مجتمعاتنا، وسوف تتراكم الإشكاليات حتى نصبح غير قادرين في إعطاء أبنائنا كيفية الخروج من تلك الإشكاليات المظلمة التي أوقعتهم فيها حبال مشاهير التواصل الاجتماعي.