حاولت في مقال سابق بعنوان (العلم بين العالم ورجل الدين) إيضاح الفرق بين (المتحدثين في الدين) و (المتحدثين باسم الدين) ،وفي هذا المقال نشير إلى أن الذين يتحدثون (باسم الدين) قد ينكرون ما أنقله للقارئ عما دونه بعض علماء أصول الفقه ونصه: «من قال مثلًا «الإجماع حجة» فليس معناه أن الأمة إذا أجمعت على أمر فقد جعلته شرعًا، بل معناه أنها إذا أجمعت على أمر فذلك أمارة على أن حكم الله في تلك المسألة هو ما أجمعوا عليه، وهكذا يقال في «قول الصحابي» و «القياس» و «الاستصلاح» و «الاستحسان» وغيرها من الأدلة، عند من أخذ بها -فهناك من لم يأخذ بها- فهي عند القائلين بها دلائل على حكم الله، وليست موجبة للأحكام لذاتها....

المجتهدون أيضًا ليسوا حاكمين: المجتهد إذا استنبط حكمًا في مسألة اجتهادية، فهو ليس حاكمًا، وإنما هو مخبر عن أنه يظهر له أن حكم الله تعالى في المسألة هو كذا وكذا مما أخبره به، ثم إن شرع الله يأمره بالعمل في خاصة نفسه بما غلب على ظنه أنه الحق.... فيحمله هذا على طلب الدليل المثبت لما يقول، فإن لم يجد دليلًا صحيحًا كفَّ عن القول إلا عند الضرورة، ويقول حينئذ: هذا رأيي، أو أحب كذا، أو أكره كذا، ولا ينسبه إلى الشرع، كما هو أدب الأئمة في مثل ذلك رضي الله عنهم وقد غفل عن ذلك كثير من متأخري الفقهاء» انتهى.

من المفارقات التاريخية أن تسمع عن مفتٍ يحرم التبرع بالدم وبالأعضاء، رغم أن المسألة تحكمها (المعايير والأخلاق الطبية) التي لا علاقة للدين بها، منذ دخول الطالب كلية الطب ودراسته التشريح على الجثث، لترى هذا المفتي يستظهر من الأدلة النقلية والعقلية ما يحرم به التبرع بالأعضاء، ثم يتراجع فجأة في آخر حياته عن فتواه عند نقله في حالة طارئة تنبئ عن فشل كلوي يحتاج فيه إلى متبرعين بالدم ومتبرع بكلية.

من خلال تجربتي الأكاديمية المتواضعة -التي أعرضها ولا أفرضها- كمتخصص يحمل (بكالوريوس شريعة) ومن خلال اطلاعي على (علم أصول الفقه) و (تاريخ المذاهب الإسلامية) جعلني أفرق بين (أهل الرأي) وحرصهم الشديد في تحري النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (أهل الحديث) الذين كانوا في أول أمرهم (محدثين) وليسوا في عداد الفقهاء، ثم تطاولوا في (البنيان الفقهي) بالتوسع في النقل على حساب تنمية ملكة النظر الفقهي العميق، علمًا بأن آثارهم لم تتجاوز كتابة (الأسانيد الحديثية)، ولهذا مثلًا ينقل عن الإمام السبكي أنه وضع الإمام أحمد بن حنبل في طبقات الشافعية.

أقول من خلال تجربتي الأكاديمية واطلاعي المتواضع على بعض العلوم منها: (علم أصول الفقة، علم النفس الديني، علم تاريخ الأديان المقارن، علم الفينومينولوجيا، والهيرمونيطيقا)، بدأت أرى ملامح (المثقف الديني الناقد)، ولا أصنف نفسي ضمن هذا التيار مع احترامي وتقديري لجهدهم المثري، مع توقعي أن يصعد (المثقف الديني الناقد) ليهيمن على الخطاب الديني (المستقبلي)، مع سقوط المفاهيم (الكهنوتية في الإسلام السياسي)، وبقائها في جيوب اجتماعية يوحدها (الفقر والمرض والجهل)، ولو من خلال (التناسل الثقافي لفقر ومرض وجهل الآباء)، حتى ولو كان الأبناء أغنياء ومتعلمين، لتصنع منهم متطرفًا ناقمًا على كل ما في القرن الحادي والعشرين من تنوع حضاري وازدهار اقتصادي لم يصب منه سوى (البطالة وسوء الحال)، إن كان فقيرًا معسرًا، أو (الغربة الطوباوية عن الحضارة الحديثة) إن كان من أبناء اليسر.

وأخيرًا لا أقصد بمصطلح (المثقف الديني) ما قصده زكي الميلاد في كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر) الذي يحمل في ثناياه ولو بشكل ناعم وغير مباشر أدبيات (الإسلام الأيديولوجي/‏الحركي)، ليكون عنوان كتابه بشكل أوضح (محنة المثقف الإسلامي مع العصر).

فالمثقف الإسلامي ينتمي للمفاهيم الشمولية البائدة في الشيوعية والإسلام السياسي، بل أقصد الأبعاد المعرفية التي قد نتفق مع كثير من أطروحاتها ويمثلها على مستوى (الأدب الوجودي في الدين) عبدالرزاق الجبران ومؤلفاته القريبة من كل شرائح المجتمع، ويمثلها على مستوى الفلسفة الوجودية (في الدين) عبدالجبار الرفاعي، وربما نطرح مقالًا خاصًا لمناقشة ومساءلة ما سماه الرفاعي (المثقف الديني الناقد) بعيون عراقية، بينما هي عربية بامتياز بل أوسع من ذلك، إلا أن العراق يتميز عن جواره العربي أن يديه في النار، وأيدي غيره في الماء، وإن كان قابلًا للغليان لولا حنكة السياسي، واصطفاف المثقفين وراء (حكمة) قيادتهم.