لا يزال مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» باقيا في الأذهان بشخصياته البسيطة وأحداثه ذات البعد الإنساني، فهو أيقونة فنية بديعة تتربع على عرش أهم الأعمال على مستوى الدراما العربية.

بطولة الراحل نور الشريف الذي أبدع بعبقريته الفنية في دور الشخص العصامي «عبدالغفور البرعي» الذي تدرج في سلم الحياة من أقصى درجات الفقر والعوز إلى أقصى درجات الثراء والغنى.

أبدع إحسان عبدالقدوس في كتابة الإطار العام لرواية «لن أعيش في جلباب أبي»، ولكن الإبداع اكتمل مع طاقم العمل الذي نجح باحترافية منقطعة النظير في تقديم رحلة عبدالغفور البرعي من الفقر إلى الثراء.

ولا ننسى كاتب السيناريو المبدع «مصطفى محرم» وتقديمه للحوارات بثراء ثقافي كبير يعكس أولا تعمقه في فهم ثقافة الشارع المصري البسيط والمكافح من أجل لقمة العيش، وثانيا تمكنه من انتزاع الجانب الإنساني من كلام الشعب البسيط، وتقديمه على هيئة حكم ومواعظ، وفلسفة حياة رفيعة المستوى، على لسان أبطال المسلسل.

كان محرم يلعب دور الجندي المجهول في هذه التحفة الدرامية الجميلة، ولولا احترافيته في صنع الحوارات لفقد المسلسل جزءا كبيرا من بريقه.

عند مشاهدتك للمسلسل، ستجد نفسك تتعلم دروسا في الحياة وثقافة المجتمع، كيف يفكر الناس ويتحدثون ويلبسون ويأكلون، وما هي بروتوكولات وعادات الزواج، وكيف تتوزع الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة.

كان المسلسل وثيقة اجتماعية وثقافية للمجتمع المصري البسيط، ولكن الجوانب الأنثروبولوجية والثقافية لا تتدخل أو تتعارض مع خط سير الأحداث، وهنا تكمن احترافية طاقم العمل.

أبدع المخرج أحمد توفيق في نقل أدق تفاصيل الحياة المصرية مهما صغرت، فمثلا ارتبطت أكلة الكشري المصرية بشخصية «فاطمة كشري» زوجة عبدالغفور التي قدمتها الممثلة عبلة كامل، ففي مشاهد عديدة قدمت عبلة طريقة إعداد الكشري بالتفصيل، ولكن دون الإخلال بتسلسل الأحداث دراميا، فالجانب الثقافي حاضر في المسلسل، ولكنه لا يتعارض مع الدرامي.

تدور أحداث المسلسل في سوق الخردة الذي يمثل مسرح وحلبة الصراع بين قيم ومبادئ الإنسان، وبين قيم وعقائد السوق، كيف عاشت المشاعر الإنسانية وسط أطماع السوق وأرباب المصلحة.

بدأ صراع الخير والشر، أو منطق المشاعر الإنسانية مع منطق السوق والمنفعة في أول لقاء بين عبدالغفور، وبائعة الكشري فاطمة التي قدمت عاطفة الحب على المنفعة حين بادلته الإعجاب رغم فقره الشديد، لدرجة أنه لا يجد لقمة عيشه ومكانا ينام فيه، فقد كان ينام بمستودع الخردة في وكالة الحاج «إبراهيم سردينه».

حملت علاقة عبدالغفور بفاطمة عنوان «وراء كل رجل عظيم امراة»، فقد ساعدته في مشوار الحياة الصعب، وقدمت له الكشري مجانا قبل زواجهما، وساعدته في الحصول على غرفة بسيطة ينام فيها بدلا من المستودع.

من الشخصيات الرائعة في العمل الحاج «إبراهيم سردينه»، أحد كبار تجار وكالة البلح الذي قام بأدائها الممثل المبدع عبدالرحمن أبو زهرة، هذه الشخصية لم تكن ضمن شخصيات رواية إحسان عبدالقدوس، بل ابتكرها مصطفى محرم ووضع فيها لمساته الذكية، فكانت واحدة من أروع الشخصيات، واكتمل جمالها بأداء أبو زهرة المقنع.

كان إبراهيم سردينه الأب الروحي لعبدالغفور، وبنصائح وتعليمات الحاج سردينه ومشاعر العطف والأبوة التي منحها لعبدالغفور، استطاع أن يشق طريقه لعالم الثروة. تمثل شخصية الحاج إبراهيم نموذجا إنسانيا في ساحة التنافس الشرس بسوق الخردة، لما يحمله من مشاعر إنسانية تجاه الفقراء وتحديدا تجاه عبدالغفور الصبي في الوكالة.

وفي الطرف المقابل يقدم المسلسل شخصية «مرسي» كبير العمال في وكالة الحاج إبراهيم الذي حاول الإساءة لسمعة عبدالغفور، لأنه أصبح يحظى بثقة صاحب الوكالة وعطفه، وسعى لإفساد العلاقة بينهما بشتى الوسائل، حتى أن محفوظ ابن صاحب الوكالة تعمد إذلال عبدالغفور وإهانته نتيجة تأليب مرسي، في حين أن محفوظ يتعامل معه بصفته صبيا وحمالا في وكالة والده أو مجرد «جربوع» كما يردد دائما في وصف عبدالغفور.

في خضم التنافس بساحة سوق الخردة تدخل المشاعر في صراع محموم مع قيم السوق النفعية، ويتزوج عبدالغفور من بائعة الكشري بعد أن أسس دكان الخردة الخاص به، ويستقل عن أبيه الروحي الحاج سردينه الذي قدم له الدعم والتوجيه والعطف الأبوي حتى شق طريقة في عالم السوق، ولا ننسى زوجته فاطمة التي ساندته في أيام الحزن والفقر حتى كون إمبراطوريته في عالم المال والأعمال.

ويرزق عبدالغفور بأربع بنات (سنية وبهيرة ونفيسة ونظيرة) وبابنه الوحيد (عبدالوهاب)، فكانوا ضحايا لثروة والدهم وسمعته المرموقة في السوق، هنا بدأت تتداخل روابط التجارة والمنفعة بروابط الزواج والنسب، مدفوعة بمنطق السوق ومبادئه، فالمتقدمون للزواج من بنات عبدالغفور يحملون نزعة نفعية للاستفادة من ثروة الأب الطائلة، وهذا ما أدركه جيدا الأب الحنون، فحاول حماية بناته من طمع وجشع أزواج المستقبل وإعلاء قيمتهن الإنسانية من خلال وضع شروط معقدة لزوج المستقبل.

كان عبدالغفور يردد دائما مقولة (بما يرضي الله)، أو (حسب الأصول)، وكأن سلاحي الدين والعرف سيحميان بناته من منطق السوق والسعي الحثيث للحصول على الثروة حتى لو من باب المصاهرة والزواج، فالمسلسل يضمر بين أحداثه الدرامية الصراع الأزلي بين منطق الإنسانية ومنطق السوق.