للبطولة معان كثيرة منها اللغوي، ومنها الاصطلاحي، فهناك البطولة التي يتحدث عنها ويترجم لها (بلوتارخوس) في كتاب أبطاله، وهناك بطولة يتغنى بها ويمجدها (هوميروس) في إلياذته..

وهاتان البطولتان متشابهتان، فقد كادتا أن تكونا خیالا محضا، بل كانتا كذلك على خير صورة، فما الخيال إن لم يكن في الصراع مع الآلهة والتنانين والشياطين، وغير ذلك من إغراق وتهويل.

هذه البطولة لسنا منها بسبيل، وهناك بطولة تخرج من التاريخ وترجع إليه على نحو ما فعل (توماس کارلایل) في تراجم أبطاله، وهي بطولة حسنة تقوى بالتاريخ، وإن كان لا يعيبها إلا أن يتحدث التاريخ عنها، فهي بطولة إنسانية واقعية تدخل في نطاق الإمكان، ولا تسمو عليه، وللأدب العربي قسط كبير من هذا المثال الأخير، وله كذلك نصيب وافر من المثال الأول تجد خير نماذجه وأهولها في حرب البسوس وابن ذي يزن، وعلي بن أبي طالب في فتح اليمن، وأبي زيد الهلالي، وما إلى ذلك من أماثيل وأساطير.

والبطولة قبل ذلك وبعده ليست بالموهبة التي لا تتأتى إلا بمعجزة، ولا يسلس عنانها إلا بعد إجهاد وتذليل، وما أريد أن أتعسف في البحث والتحليل، فأفعل كما يفعل كثير من الكتاب والمؤرخين، فمن هؤلاء من يرفع البطل إلى درجة الإله، ومثال ذلك قريب، فهذا لبيب الرياشي يكتب عن النبوغ كتابا متوسط الحجم فيرفع فيه نابليون بونابرت إلى ذرى آلهة الأولمب، ويسهب في وصف الدماغ وهيئته وكيفية استقراره في هدوئه واشتغاله بالتفكير، ومواده السنجابية والنخاعية والشوكية، وكيف يضطرب الجهاز العصبي، ومما تتكون خلايا المخ في رأس النابغة ـأي البطل- فكل ذلك ـولا امتراءـ ذهاب بالبطولة في غير مذاهبها، وخروج بها عن نطاقهـا المحدود، وحذلقة تسمج بقلم الكاتب ولا تحسن في عين القارئ، لا أريد أن أصغر من شأن البطولة، ولكني أريد أن أقول إنها حميمة في الطبيعة الإنسانية، فليست هي بنبوة لا تأتي إلا من السماء، ولا هي بالطلسم السحري الذي لا يأتي إلا مـن العفاريت والشياطين، وما أحسب أن إنسانا بالغا ما بلغ من الجبن والهلع يخلو من قسط ولو ضئيل منها، فإن الجبان ليقاتل أشد قتال وأعنفه إذا اعتبط في ماله أو ولده أو استلب في أهله أو نفسه، وهو وإن لم يقاتل قتالا إيجابيا، فلا أقل من أن يذهب إلى المحاكم ويجار إلى الولاة، ويعدو هنا ويصرخ هناك، ويذهل عن كل ما حوله، فلا يعنيه أي شيء ولا يحسب حسابا لكل شيء.

والإنسان مقيد بمكانه وزمانه حيث كان، فكم من بطل مات مغمورا مجهولا لأن الزمان لم يسمح له بإبراز بطولته أو لأن مكانه كان أضيق من أن يتسع لها أو لمثلها، -فجنكيزخان- مثلا يعد من أبطال التاريخ وجبابرة القرون، وقد كان زمانه ملائما كل الملاءمة لخروجه، وكانت كل الممالك في عصره أشبه بدويلات إقطاعية تتراكض سراعا إلى هوة التدهور والفناء، ولكن تصور جنكيزخان لو أنه خرج في عصر عمر بن الخطاب أو عصر هتلر وتشرشل ماذا كان ينتظر لمثلـه؟.

والزمان هو الذي يوجد البطولة والأبطال، فقد يتقدم الصفوف ويروسها بطل مجهول منشأه مغمور مرکزه ضعیف في معرفته وسعة نظره، ولكن الزمان يصلح له، ولا يصلح لسواه، وما نحن بحاجة إلى أن نأتي بالأمثال، وإن كانت سهلة المنال، وهناك بطل ذو ملكة أصيلة واستعداد فطري، ولكن زمانه يشمس عليه فلا يؤاتيه، أو مكانه ينبوبه ويزور عنه فلا يجريه في مجاريه.

1942*

* شاعر وأديب وصحافي سعودي «1914- 1993».