منذ بلوغ معظمنا سن الرشد ذكرا كان أو أنثى وهو يرسم في مخيلته حياته الأسرية، فيتخيل تلك الزوجة الجميلة وذلك البيت الواسع ومن ضمن تلك الخيالات مولود يكبر أمام عينيه، وما هي إلا أعوام تمضي كالأحلام فتصبح الأحلام حقيقة بزواج ذلك الحالم من تلك الحالمة فيأتي ذلك الطفل واقعا.

وما إن تحمل تلك الحالمة في أحشائها ذلك الجنين حتى يبدأ الأب في التخطيط لكل صغيرة وكبيرة لذلك الضيف القادم، فكيف يغذي أمه فترة حملها به، وكيف تلده في مكان يليق بـ«جلالة قدره»، وأين سيلعب وكيف سيعيش وأين سيدرس ومن سيتزوج و..... و..... إلخ وهو ما زال لحمة لا تنبض، وما إن يحل وقت وصول المولود حتى يتحول الأب إلى شبه وحش كاسر، مستعدا لركوب أمواج الصعاب كالحيتان ومكابدة ظروف حممها كالبركان.

وكل يوم يكتشف ذلك الأب صعوبة جديدة، وهكذا وليست مشكلة، ولكن المشكلة حين يصل ذلك الطفل مدرسته، فيبدأ الأب في حمايته من زملائه، وإلباسه حذاءه، وتصفيف شعره، ومسح التراب من مقعده، وكل ذلك دلال ولا مشكلة إلا حينما يصبح هذا الدلال محولا ذلك الطفل لمسخ لا يعرف شيئا، فمع فارق التشبيه يمكن لأحدكم أن يجالس طفلا من المتسولين مثلا، وسيجد غرابة وفارقا مثل ما بين الشمس والقمر، فالمتسول ليس مثالا نموذجيا نريد أطفالنا أن تكون بقوته، ولكن هذا المثال يظهر ما يمكن أن يخرج من الطفل لو ترك ليجابه حياته دون دلال أو «زهزهة»، فالعضلات نفسها والعقل نفسه تقريبا، بل النموذجي هم مثلا أبناء الأسر الثرية نتيجة العلم والاختراعات وليس نتيجة التجارة وحدها، فمثلا قد تجد طفلا لأبوين طبيبين ومخترعين ولديهما من الأموال ما قد يوفر لطفلهما ذلك خدما حتى من أوروبا، ومع ذلك تجد الطفل يعتمد على نفسه في ترتيب سريره وتفريش أسنانه وجلب الأكل والشرب من المطبخ بنفسه وهكذا.

أما الملاحظ الآن وفي نسبة كبيرة من مراهقي هذا الزمن أنه لم يجد أي صعوبة في حياته تجعله يتعلم على الأقل كيف يضع نفاياته في مكانها المخصص، بل حتى لم يجد من الصعوبة ما تجعله يقدر العمالة الأجنبية على سبيل المثال، فيراهم وكأنهم آلات بلا مشاعر، فقط عليهم خدمته في المطعم والبقالة ومحطة البنزين والحلاق دون أن يتأوه أحدهم أو يتأخر ولو دقيقة واحدة على «جلالة قدره»، وما هي إلا سنتان أو ثلاث بعد سن المراهقة فتجد «جلالة قدره» قد انخرط في «شلة» خمور ومخدرات من أول تحدٍ واجهه في حياته ولم يصبر على تخطيه سوى بالمغيبات العقلية، بسبب أول حاجز وقف في طريقه، ولا يلام لوحده بل اللوم على الأب الذي أخرجه لهذه الحياة ضعيفا معاقا عن قدرة تخطي الحواجز بالقفز، و(كيف يقفز من لم ير الحواجز).