ربما لا نحتاج لبيان الآثار السلبية لتطبيق عقيدة فكرية واحدة إجباريًا، طالما صارت كلمة «الدكتاتورية» في التوصيف مرادفة لها.

شهد العراق في مختلف أدواره التاريخية، أحداثا بالغة الأهمية كان لها أثر في استقراره، ولم تنحصر بما هو متعارف عليه من التداعيات السياسية فحسب، بل كانت لتغير المتبنيات العقائدية والسياسية، أثرها الواضح في ذلك.

من أهم العوامل التي جعلت من الأفكار الأيدولوجية، وسيلة لإخضاع الناس وإرغامهم على تبنيها ولو بالإكراه، هو رعايتها من قبل السلطة الحاكمة، سواء في العصر الحديث أو القديم.


الطابع الرسمي المتبني لفكرة ما، يساعد على انتشارها، مهما احتوت من إشكالية عقائدية والتي غالبًا ما يكون الإلزام دليلا على أنها تشكو من علة ما، ليصبح مسوغا للتعاطي والميل لهوى السلطان شاملا لجميع البلاد التي تخضع لحكمه.

تبعًا لذلك صار الإرهاب المرتكز على طاعة الرأي الواحد، هو نتاج للقناعة التي وصل مناصرو السلطة إليها، فساقوا خصومهم لساحات الإعدام مستغلين نفوذهم، وتحت غطاء الدولة، في حين أن النقاش العلمي وحلقات البحث، هي الوسيلة لحسم الصراع الفكري، بدل أن يصار للتآمر السياسي والمكائد الدموية.

القراءة المنصفة للتاريخ تبين أن العقيدة الواحدة أصبحت شعارا للسلطة الدموية؛ كونها تهيمن على سلوك الدولة الرسمي، حيث تنتهز الفرق الإقصائية فرصتها للوصول إلى موقع القوة المؤثرة اجتماعيا والمتمثل بالمنصب، وما يحمله من صلاحيات واسعة، خصوصًا حين يضفي الطغاة صبغة دينية ملازمة للموقع التنفيذي الأول، وهذا ما شهدته الإمبراطورية الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، حيث تمت المباشرة بتصفية الخصوم والانتقام منهم.

أن الإطلاع على مجريات الأحداث التاريخية المتعلقة بهذا الشأن هي من واجب النخب الثقافية والسياسية، والعزوف عن ذلك غير مبرر، وتتحمل المؤسسة التعليمية جزءًا من المسؤولية، فضيق المجال ليس بحجة للامتناع عن التوسع في دراسة التأريخ، فالأحداث الجسيمة تحتم على الباحثين، تجسيم المأساة التي مرت بها الشعوب، وبعض الأحداث تكاد تكون منسية ولا تحظى بالاهتمام والمتابعة الكافية رغم خطورتها والأثر البعيد لانعكاسها السيئ على الإنسان، خصوصا في العراق باعتباره مسرحا للصراعات الناجمة عن المنهجية البدائية في تطبيق سياسة الإكراه، على تبني الفكر الواحد التي يؤمن بها الحاكم، وسعيه للتحكم بالبنية السلوكية والنفسية للفرد العراقي، والتي تركت آثارا سلبية وإن كانت تدريجية هيمنت على خيال وذكريات شعب الرافدين لما تركته الأحداث في عمق الذات الانسانية، فألقت بظلالها على نمط تفكيره المتناغم مع الكم الهائل من المآسي وصولا إلى مقولة صدام الشهيرة كل العراق بعثي وإن لم ينتمي!

يمكن القول إن العراق هو أحد ساحات الصراع، الذي تقف خلفه سياسة فرض العقيدة الواحدة، بعد أن كانت عامة البلاد الإسلامية تقع تحت هيمنة العباسيين والأمويين، لكنه تميز عن بقية البلدان في العصور المتأخرة بحكم وقوعه تحت الهيمنة العثمانية والفارسية، وما نتج عنها من مجازر مثلت صورة تطبيقية للصراع بين هاتين الدولتين، فأفرز موجات من الثأر والانتقام الطائفي المدعوم من هذا وذاك، حين سخرت الدولة له سلطتها القاهرة ليكون صراعا عقائديا ببعد طائفي.

من خلال هذا يتبين أن الشعب العراقي كثيرا ما كان مغلوبا على أمره، مسلوب الإرادة قد أخذت منه الخرافة والجهل مأخذها، ناهيك عن كاهله المثقل بعوامل الفقر والمجاعة والحروب، وفوق ذلك كله تجده مطالبا باتخاذ موقف المنحاز والمناصر لهذا وذاك من حاكميه المتناقضين والمتنازعين طائفيا!

ما يثير الدهشة أن المجتمع العراقي وبعد خلاصه من الاحتلالين تمكن من المحافظة على مسيرة حياته المدنية فلا عوائق تثنيه عن تبني الشعارات العصرية على الرغم من مبالغة بعض التقدميين في خطابهم القومي، ولا يمكن تغافل الكفاح اللاطائفي الذي تبنته المؤسسة الدينية في النجف الأشرف، رغم استقلاليتها عن القرار السياسي والتزامها الديني، والرفض الواعي للتدخلات الخارجية، ناهيك عن الصلابة الذاتية والوحدة الاجتماعية، التي يعود لها الفضل في إبقاء المحتوى الحديث والمعاصر لبلد اسمه العراق.

إن الأسس العامة للحرية الشخصية التي أكدها الإسلام، وكافح لتثبيتها الأئمة عليهم السلام، تفرض على المتصدين للعمل السياسي والثقافي بقاء صور العنف المفرطة التي دفع ثمنها أبناء العراق أرواحهم ثمنا لرغبة الحكام الجامحة في سيادة مفهوم العقيدة الواحدة راسخة وماثلة على الدوام في خاطرة كل غيور يسعى لبناء بلده بشكل حضاري ويستحضر الدوافع والمقدمات والنتائج، وتستلزم توخي الحذر من شيوع تلك الظاهرة في المستقبل.

لذلك فإن مقتضيات الواجب الوطني والإنساني تحتم على الجميع ضرورة الإطلاع التفصيلي على الوقائع والإحاطة الواعية بظروفها والتعرف على جوانبها فهي الحالة الأسمى لمن يبتغي الوقفة الوجدانية والتبصر والتفكر بماضي بلده ومصير شعبه.