قرر الغزالي حين تكلم في التربية أن قلب الطفل «جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة. وهو قابل لكـل ما ينقش عليه، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه. فإن عُوّد الخـير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة. وإن عُوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك».

وهذا يدل على أن الغزالي يرى أن الفطرة الإنسانية قابلة لكل شيء، وأنه ليس لها قبل التربية أي لون.

فالخير إذن يكسب بالتربية. والشر يكسب بالتربية. وليس للإنسان بفطرته ميل خاص: لا إلى الشر، ولا إلى الخير، وإنما يسعد أو يشقى بما يقدم إليه أبواه ومعلموه.

ويؤيد هذا قوله في تهذيب الأخلاق «وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطـرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل. وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا، وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم».

ولكنا نجد الغزالي يقرر في ص ١٢٧ من «الميزان» أن النسب الديني أمارة الديانة وحسن الخلق، لأن العرق نزاع. ونجده كذلك يحض في تربية الطفل على أن تكون المرضع امراة صالحة، إذ لا يمكن أن تعتبر، وهذا صريح في الحكم بوراثة الأخلاق، إذ الرضاعة نوع من الأدب والتدريب، إذ كانت تسبق الإدراك والتمييز. يضاف إلى هذا أنه يقرر أن الطفل قد يشاهد عليه الميل إلى الحياء، وأنه يجب استغلال هذه الغريزة فيه. ومن الواضح أنه لو كانت الفطرة جميعا خالصة من كل الميول، لكان واجبا أن يغرس الحياء في الطفل بالتربية والرياضة. لا أن ينمى، إذ لا ينمى غير الموجود.

ومما تقدم نرى للغزالي رأيين مختلفين في وراثة الأخلاق. فهو حين يقرر أن قلب الطفل جوهرة ساذجة خالية من كل نقش، وقابلة لكل صورة، يحكم بأن الأخلاق لا تورث. وحين يدعو إلى ألا ترضع الطفل امرأة غير متدينة يحكم بأنهـا تورث؛ فهل يمكن رفع ما بين هذين الأمرين من ظاهر الخلاف؟

الواقع أن الغزالي لم يعن بهذا البحث، لذلك كان كلامه فيه متناقضا، وغير محدود. ولو أنه عنى به عناية خاصة لبين لنا أن الأخلاق تورث، وأن هذه الوراثة لا تمنع من قبول الطفل لكل صورة. فالفطرة البشرية صالحة لكل غرس، لأن الأخلاق التي يرثها الطفل من أبويه تولد معه ضعيفة ميسورة الاقتلاع، بل الكهول يقدرون على استئصال رذائلهم بالرياضة والمجاهـدة، والطباع التي يرثها المرء من أبويه لا تعاوده إلا عند خمود مزاياه التي كسبها بنصح أساتذته، أو تأثير بيئة صالحة ساقته إليها الأقدار.

إذن لا تناقض في كلام الغزالي إلا من حيث الظاهر. فهو يقول، بوراثة الأخلاق في ثنايا آرائه المبعثرة هنا وهناك، وإن كان يجعل للتربية السلطان الأكبر في تكوين النفوس.

1924*

* أديب وصحفي وأكاديمي مصري «1892 - 1952»