العالم يشهد اليوم تحولًا تاريخيًا جوهريًا في ميدان الصناعة المعتمدة على الطاقة. في الماضي كانت الطاقة تسافر إلى الصناعة فتسكن قربها أما اليوم بعد أن شحت الطاقة وارتفعت أسعارها ـ فقد أصبح من الضروري أن تسافر الصناعة إلى الطاقة فتسكن قربها، لم يعد من المقبول أن تذهب الطاقة رخيصة من شواطئنا لتعود إلينا مصنعة بأثمان باهظة. ولكن المعقول أن يتم تصنيع الطاقة عندنا وأن نكون شركاء في عملية التصنيع.

إننا في المملكة نساهم في حركة تاريخية ستغير الحقيقة المخزية المخجلة، وهي أن دول العالم الثالث بأكملها لا تنتج إلا ما يقارب 5% من مجموع الإنتاج الصناعي العالمي. إن رياح التغيير تهب على خارطة الصناعة الدولية. والتغيير سنة من سنن الحياة ومقاومته سنة أخرى. وينتصر في العادة من كان جديرًا بالانتصار..

ولعلكم الآن بدأتم تدركون لماذا تثار الشبهة تلو الشبهة حول صناعاتنا الأساسية. صحيح أن هناك من يدفعه الجهل والناس منذ كانوا أعداء ما جهلوا. وصحيح أن هناك من يدفعه التقليد إلى ترديد ما يسمع دون فهم. وصحيح أن بعض التساؤلات تنطلق من وطنية لا ترقى إليها الشبهات. ولكننا لا يجب أن نكون من السذاجة والغفلة فنجهل أن كثيرًا من الشبهات تصطنع ويروج لها لتثبط عزيمتنا وتلقي اليأس في نفوسنا.

وبالتالي تعرقل عملية التحول التاريخي الذي سيسمح لنا كدولة نامية، لأول مرة في تاريخ العلاقات الاقتصادية، أن نكون عضوًا كامل العضوية في نادي التصنيع.

ولهذا فإنني أود أن أقول لكم –ولكل مواطن– بكل صراحة: إن التساؤل عن جدوى صناعة ما أمر مشروع، لا بل إنه واجب في عنق كل مواطن. ولكن التشكيك في مستقبلنا الصناعي بأكمله أمر مشبوه، لا بل إن رفضه أمانة في عنق كل مواطن.

إن صدورنا وقلوبنا ودراساتنا مفتوحة للمواطنين جميعًا. ولكن تطلعاتنا وطموحاتنا وأحلامنا ليست معروضة للبيع في سوق الشكاكين والمضللين.

ولنخط الآن بضع خطوات مع ما يثار حول صناعاتنا الأساسية:

هناك شبهة تقول إن جميع صناعاتنا هي من قبيل الفيلة البيضاء وهي تعبير باللغة الإنجليزية عن المشاريع الضخمة التي تحتاج إلى كثير من المال وتنتهي إلى الخسارة والفشل.

إنني لا أود أن أتخلى عن حلية الأدب في حق أي إنسان ولكنني مضطر إلى القول إن من يردد مثل هذا الكلام هو إنسان مغرض كليًا أو جزئيًا ـ أو إنسان جاهل كل الجهل أو بعض الجهل. لماذا ؟

لأن الصناعات الأساسية السعودية تشمل حلقة واسعة من المنتجات تبدأ بالإثيلين ومشتقاته العديدة من «ستايلين وستايرين وجلا يجول وبولي اثيلين» منخفض الكثافة ومرتفعها ولا أود أن أضيف المزيد من هذه الأسماء الرنانة حتى لا يغضب الإخوة من المهندسين الكيميائيين لاجترائي على اقتحام حدودهم – وتمتد إلى الميثانول واليوريا والحديد والصلب والألومنيوم.

إن لكل صناعة من هذه الصناعات وضعها المتميز وظروفها الخاصة - فكيف يمكن لأي إنسان أن يحكم عليها جميعًا بالفشل المطلق؟

وثانيا: إن كل مشروع من هذه المشاريع تعد له دراسات جدوى ودراسات هندسية تفصيلية في مجلدات ينوء بحملها العصبة من أولي القوة. فكيف يمكن لصحفي أجنبي لم يقض في البلاد إلا يومًا أو يومين ـ أو بفيلسوف من فلاسفة المقاعد الوثيرة في الداخل أو الخارج أن يحكم بالفشل على مشروع لم يطلع على ألفه وبائه؟

وثالثا: إننا نقوم بصناعاتنا الأساسية مشاركة مع شركات عالمية متخصصة تساهم معنا بنصف رأس المال. وهذه المساهمة تصل إلى مئات الملايين من الريالات. فهل يعقل لمثل هـذه الشركات أن تقذف بأموال طائلة في مشاريع غير مجدية؟

ولا أود أن أطيل هنا. فالقول الفصل للزمن وحده والزمن بيننا.

ومن الشبهات التي تتردد حول صناعاتنا شبهة بدأت أسمع أصداءها تتردد همسًا أو جهرًا في الداخل.. وهذه الشبهة تطرح نفسها على هيئة سؤال:

- كيف نقول إن هدفنا من الصناعة الحصول على دخل من مصدر غير البترول، وتنويع مصادر الدخل، وجميع صناعاتنا الأساسية قائمة على البترول؟

هذا سؤال ظاهره الوجاهة وباطنه فيه الكثير من تجاهل الحقائق أو عدم الإلمام بها.

الحقيقة الأولى: هي أن صناعاتنا الأساسية لا تعتمد على البترول ولكن على الغاز. ولا شك أن أي دخل نحصل عليه من صناعات قائمة على الغاز سيكون إضافة جديدة لدخلنا من البترول.

والحقيقة الثانية: هي أننا لا نستطيع أن نستغل ثروتنا الكبيرة من المعادن ما لم تكن هناك القاعدة الصناعية الكفء. والدراسات المكثفة التي تجريها وزارة البترول والثروة المعدنية في الوقت الحاضر تبشر بالخير.

وإننا نأمل أن يأتي اليوم الذي تصنع فيه المعادن المختلفة فتصبح موردًا جديدًا من موارد الدخل.

والحقيقة الثالثة: هي أن صناعاتنا الأساسية ستكون نقطة الانطلاق لإقامة صناعات مساندة عديدة لا توجد لها أي علاقة بالبترول.

والحقيقة الرابعة: هي أن إقامة قاعدة صناعية واسعة تعني تدريب أعداد كبيرة من المواطنين في مهارات لا يقتصر استخدامها على حقل بعينه. وهذه المهارات ستبقى مع الإنسان السعودي بعد أن ينضب البترول.

وشبهة ثالثة تتحدث عن الأعداد الكبيرة من العمال الأجانب التي ستحتاج إليها الصناعات الأساسية. وهنا لا بد أن نكون صريحين مع أنفسنا فنعترف أن هذا السؤال يثير أمورًا بالغة الأهمية. ولكننا يجب أن نضع الأمور في نصابها – فلا نبالغ في التخوف. إن جميع صناعاتنا الأساسية تمتاز بكثافة رأس المال وقلة اليد العاملة ولذلك فإنها بعد اكتمالها لن تحتاج إلى أكثر من عشرين ألف عامل لإدارتها. ولا أعتقد أن هذا رقم مفزع في مجتمع يوجد فيه بالفعل أكثر من مليون ضيف وزائر – إن الصناعات الأساسية ستبدأ وربع العاملين فيها من السعوديين وستتحول هذه النسبة إلى ثلاثة أرباع خلال السنوات العشر الأولى من التشغيل. ولعل من الملائم أن نتذكر ونحن نتحدث عن أزمة اليد العاملة أن لدينا بطالة مقنعة تتجلى في أوجها في حالة عشرات الآلاف من المستخدمين والموظفين الذين لا تبلغ إنتاجيتهم الحقيقية ساعتين أو ثلاثًا في اليوم. وإننا لنأمل أن تنجح الصناعات الأساسية في اجتذاب العديد من أمثال هؤلاء إليها حيث يعطون إنتاجًا أفضل ويظفرون بمردود أكبر. على أنه يبقى من واجب كل مواطن أن يحرص على ألا تنطبع على ملامح هذا المجتمع الإسلامي العربي بصمات الزائرين. ونحن في قطاع الصناعة حريصون الحرص كله على تنفيذ خططنا الصناعية على نحو يتمشى مع تراث هذا البلد العريق وأصالته الإسلامية.

وشبهة رابعة تتردد في مقالات كثيرة في المجلات المتخصصة والعاملة في الدول الصناعية وهي شبهة توشك أن تكون مضحكة لولا أن الدعابة التي تنطوي عليها سمجة ثقيلة. تقول هـذه الصحف ـ إن المملكة ستغرق الأسواق العالمية بفائض خطير من البتروكيمائيات سيؤدي إلى اضطراب شامل في هذه الصناعة يهدد مراكزها القائمة.

وردًا على ذلك نقول إن الاستثمار في صناعة البتروكيمائيات مستمر منذ عشرات السنين، فلماذا لم يبدأ الحديث عن الفائض الخطير إلا بعد أن فكرنا في دخول هذا الميدان؟ ونقول إن نصيب المملكة من مجموع ينتج من بتروكيمائيات في العالم لن يتجاوز 5% بعد عشر سنوات، فكيف يمكننا –والحالة هذه– أن نغرق الأسواق بمنتجاتنا؟ ونقول: لماذا يستمر الذين يتحدثون عن الفائض في إنشاء مجمعات بتروكيمائيات جديدة ويطلبون منا التوقف عن إنشاء مجمعاتنا وأمامهم عشرات الخيارات لاستثمارات صناعية رابحة بينما لا نملك نحن أي خيار؟.

ومع هذه الشبهة يدور الهمس الخافت حول إجراءات ستتخذ لقفل الأبواب أمام البتروكيمائيات العربية ومنعها من دخول الأسواق العالمية.

1977*

* أديب ووزير سعودي أسبق «1940-2010».