يحتمل أن تكون الميكروبات أقدم من سكن الأرض منذ مليارات السنين، كما تعتبر أكثر الكائنات وفرةً على سطح الأرض، حيث توجد في التربة والماء والهواء والصخور والنباتات والحيوانات والبشر وفي البيئات الأكثر قساوة مثل الينابيع الحارة ومناطق الجليد.

يشار إلى الميكروبات بالكائنات الحية الدقيقة وذلك لصعوبة رؤيتها بالعين المجردة، وتضم الفيروسات والبكتيريا والطفيليات والفطريات.

تعتبر العلاقة بين الميكروبات والإنسان وثيقة ودائمة وليس بالضرورة أن تتسبب بالمرض. فجسم الإنسان يتعايش مع أنواع عديدة منها، وبعضها مثل البكتيريا النافعة تسهم في تخلص الجسم من الفضلات والسموم وتمنع نمو الفطريات. الفيروسات هي أصغر الكائنات الحية الدقيقة ورأس دبوس يمكن أن يتسع لمليارات الفيروسات معاً. أيضاً الفيروسات على اختلاف أنواعها لها القدرة على اختراق خلايا الإنسان، ويعتقد بعض الخبراء أن اندماجها مع الحمض النووي في البويضات والحيوانات المنوية احتمال وارد على الرغم من عدم اكتمال الإثبات بالدليل القاطع.

ارتباط الفيروس بالخلية المستهدفة وتمكنه من دخولها يعني تكاثره وتسببه للمرض والعدوى وربما الوفاة.

مما لا شك فيه أن الميكروبات أكثر تكيفاً من أجل البقاء وتتفوق على الكائنات الأخرى في التعايش مع البيئة المحيطة بها، وتتميز بمعدل تكاثرها السريع ونقل سماتها الوراثية إلى أجيالها القادمة وبشكل متطور. فإذا كان الإنسان ينتج جيلاً جديداً بعد عشرين سنة تقريباً فإن البكتيريا تحتاج 20 إلى 30 دقيقة، والوتيرة ستكون أسرع بكثير في عالم الفيروسات. فتزايد أعداد البشر مما يقارب مليارين نسمة عام 1900م إلى ما يزيد عن 8 مليارات اليوم، والتطور المدني الذي تخلله بناء المدن والتوسع في ربط المدن والقرى، وإزالة الغابات من أجل توسيع الأراضي الزراعية وتمدد سلوكيات خاطئة، كلها عوامل أسهمت في توثيق اتصال الإنسان ببيئة الكائنات الحية الدقيقة، والزيادة من احتمالية انتقالها وتسببها في العديد من الأمراض.

اختلال البيئة المحيطة بالفيروسات بشكل غير مسبوق؛ نتيجةً لرغبة الإنسان في رفع مستوى رفاهية حياته خلال العقود الماضية يجعل ظهور جيل متطور من الفيروسات ذات سمات تختلف عن أسلافها أمراً وارداً. في نفس الوقت فإن معدل التكاثر الفائق لهذه الكائنات مكنها من القفز من الحيوان (الخازن الرئيسي أو الوسيط) إلى الإنسان (المضيف الجديد) مما يتسبب في الإصابة بالأمراض والوفيات.

في إطار أزمة كورونا الراهنة و التي ربما ابتدأت في أحد تجمعات سوق ووهان الصيني، فإن انتقال فيروس كورونا سارس -2 إلى الإنسان عبر حيوان وسيط هو أمر أكثر ترجيحاً وهنا ثلاثة أدلة تدعم ذلك. أولاً: التطابق الجيني بين فيروس كورونا وفيروس سبق عزله من الخفافيش (ZC45) يشير إلى أرجحية أن الحيوان هو المصدر الطبيعي. ثانياً: عدم وجود أدلة تعاكس الانتقاء الطبيعي للفيروس، ففريق خبراء منظمة الصحة العالمية المكلف بالتحقيق في أصول نشأة فيروس كورونا والذي قام بزيارة للصين في مارس 2021م، وعالم الفيروسات بمعهد روبرت كوخ الألماني كريستيان دروستن، ومن خلال مقابلة مع صحيفة زود دويتشه تسايتونغ في فبراير من العام الحالي، كلاهما يرجحان أن الحيوان هو المصدر للفيروس.

استمرار الانتشار الفائق للفيروس و التسبب في ما يزيد عن 530 مليون إصابة بكوفيد-19 و أكثر من 6 ملايين و 300 ألف وفاة (10 يونيو 2022)، تجعل العالم بأجمعه وبصراحة مطلقة أمام ظاهرة لم تشهدها البشرية مع فيروسات تنفسية سابقة على مدى العقود الماضية. الأمر الذي يجعل الوسائط الاجتماعية تضج بالتكهنات وتعيد التساؤل حول منشأ الفيروس للمشهد مرة أخرى. والتي لا تخلو أن تكون حول أحد أمرين، إما: مؤامرة هندسة الفيروس وصناعته داخل مختبر ووهان لعلم الفيروسات أو الإهمال في إجراءات احتواء الفيروس أثناء عمليات البحث والدراسة وتسربه من المختبر ذاته.

فتمكن الأدوات البحثية من التعرف على التسلسل الجيني لفيروس كورونا بعد وقت قصير منذ بدء الوباء، والتماثل المتفاوت مع فيروسات تاجية انتشرت سابقاً بين البشر. أيضاً ظهور دلائل علمية توضح دور «موقع فورين» على شوكة الفيروس في التكاثر والتسبب في المرض. جميعها عوامل تدعم إلى حد كبير عدم تعرض الفيروس لهندسة وراثية وترجح الانتقاء الطبيعي في وسيط غير معروف قبل انتقاله للبشر. من جهة أخرى وكما ذكرت مجلة الناتشر المعروفة ضمن أحد أخبارها أن الصين لم تكن متعاونة في الإدلاء بمعلومات كافية حول انتشار فيروس سارس القديم بين عامي 2002 و 2004م. الأمر الذي أثار المزيد من الشكوك لدى البعض في احتمالية فرضية تسرب الفيروس. على الرغم من غياب دليل جوهري يدعم تلك الفرضية أو يستبعدها إلا أن الحدث لم يخلو من الاتهامات ومحاولات تسييس القضية في مناحي عديدة حسب ما ورد في نفس المجلة.

ولكن العديد من علماء الأوبئة والفيروسات يرجحون بأن الفيروس تطور بشكل طبيعي حيث انتقل من الخفافيش إلى الإنسان عبر مضيف وسيط شأنه شأن فيروسات سابقة مثل فيروس إنفلونزا الطيور وفيروس متلازمة الشرق الأوسط وفيروس إيبولا وفيروس نقص المناعة. ظهور المتحورات المتجددة لفيروس كورونا سارس -2 (متحور ألفا و دلتا و أوميكرون وغيرها ) والتي هي بواقع طفرتين إلى ثلاث طفرات تقريباً على طول الجينوم الفيروسي بشكل شهري، إضافةً إلى اختلافها عن سلفها المرصود في سوق ووهان يظل أمرا طبيعيا ويعزى لمحاولات الفيروس التكيف من أجل البقاء.

إذن، هل اللهجة الشديدة على لسان منظمة الصحة العالمية بعد عامين ونصف تقريباً من بداية أزمة كورونا تعني رصد دلائل مستجدة بعيدة عن طبيعة نشأة الفيروس؟

الواقع أنه لا يوجد أي تغيير في التفسيرات السابقة وإنما الهدف هو التذكير بعدة مزايا في حال معرفة أصول الفيروس ومنها:

1- منع إصابة البشر بنفس الفيروس مستقبلاً مرهون بمعرفة المصدر الطبيعي له.

2- الاستجابة لجائحة مشابهة وتخفيف وطأتها في المستقبل يعتمد على كيفية قفز الفيروس من الخفافيش إلى الإنسان.

3- التوصل إلى دواء و لقاح ذو فاعلية أعلى سيكون ممكنا في حال التعرف على شكل الفيروس الأصلي قبل انتقاله للإنسان.

ربما ستبقى الأسئلة حول تتبع منشأ فيروس كورونا رهينة لأمد بعيد للحاجة لبيانات دقيقة. فالتعرض لأعراض كوفيد-19 طويلة الأمد مثل اضطراب تدفق الدم في الأوعية الدموية نتيجة تغير شكل خلايا الدم الحمراء وغيرها من الأعراض غير مألوفة سيعيد التساؤل عن أصول الفيروس للواجهة مرة أخرى، وطرح التساؤلات لمحدودية المعرفة تجاه أي وباء تعتبر طبيعة بشرية لإثراء العلم، وتمثل جوهر الاستجابة الوقائية لأي أوبئة محتمل ظهورها في المستقبل.