أوردَ ابنُ حبيبٍ في كتابه عُقلاء المجانين، روايةً يتيمة تُشير إلى أنَّ الجنونَ فطرة. تقولُ الرواية: «خُلِق ابنُ آدم أحمقًا، ولولا حمقه ما هناه العيش». واليُتْم -هنا- يأخذ معنى الفرادة التي تَنزع مفهوم الجنون إلى أقصاه، أي أن يُولد الإنسانُ أحمقًا، ثُمّ يَتَعقّل شيئًا فشيئا. وكأنَّ الحمق/الجنون، هو الدهشة التي تنفيها الأُلفة شيئا فشيئا. وهذا المعنى اليتيم الذي أورده ابنُ حبيبٍ قَرنَهُ بهناءِ العيش، مما يُحيلنا إلى قولِ المتنبي:

«ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالةِ في الشقاوة يَنعم»

إلا أنَّ المتنبي جعلَ صاحب الجهالة في مقابل صاحبِ العقل، وكأنَّ المتنبي يؤيد أنَّ العقلَ معرفَةٌ نُظِمَت ووضِعَت في الإنسان، تزِيدُ وتتسع بالعلمِ المكتسب، ومن ثمَّ فإنَّ الجاهل -عند المتنبي- هو الأحمق/ المجنون، فيكون -بهذا التعريف- مطرودًا من جنس الإنسان، وهذا يُذكِّرنا بما فعله الرازي حين قَرنَ بين البهائمِ والمجانين.

ويُقابل المتنبي الحارثُ المحاسبي -وهو من كِبار المتصوّفة- إذ يرى أنَّ العقلَ «غريزة لا يُعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح». ولو كانَ العقلُ معرفة -كما هو تأويل بيتِ المتنبي- لكانَ الجنون نكرة. وسيكون الجنون -عند المحاسبي- معرفة أيضًا، لكنّه معرفة غير مضبوطة بأفعالٍ تُميَّز من قِبل الآخر؛ ورؤية المحاسبي تقارب رؤية أهلِ الحقائق بأنَّ المجنونَ هو من ركن إلى الدنيا، لكنها ليست مثلها؛ لأنَّ الركون إلى الدنيا فِعلٌ مُقَسَّم إلى أصنافٍ عدة، وبعضها مُميَّز من قِبَل الآخر؛ ولهذا فإنَّنا أمام فعلٍ معرفي غير مفهوم من قبل الآخر، وهو الركون لدنيا تُنحّي القلبَ عن إدراك سر الوجود. فالجنون والعقل -هنا- كلاهما يُعرَفُ بأفعالِ القلوب والجوارح.

وبين كونِ العقلِ معرفة -ومن ثَمَّ الجهل جنون- أو كونه غريزة -ومن ثم الجنون معرفة غير مفهومة- يأتي نصُ ابنِ حبيب ليقول إنَّ الجنونَ فطرة. فيأتي السؤال: ما نتيجة أن يكونَ الجنون فطرة؟ فقبل هذا التعريف كان يُبدأ بتعريف العقل، ثم يُجعَل الجنونُ مُقَابِلَه، أو نتيجةً لاختلاله. لكنَّ الرواية -هنا- تختلف باتجاهين: الأول: أنها بدأت بالجنونِ لا العقل، والثاني: أنها عَرّفت الجنونَ بصفته أصلًا يُولد عليه الإنسان. ومن ثمَّ نحتاج -هنا- لنُميّز مفهومَ الفطرة في السياقِ العربي، حتى نصل إلى هذا المعنى الفريد في تاريخ الجنون العربي. ومفهوم الفطرة جاء على عدة معانٍ:

المعنى الأول: بمعنى الخِلقة التي خُلِق عليها المولود في المعرفة بربه. أي السلامة من كل شيء، سواء إيمان بالله، أو كفر به، أو معرفة، أو إنكار. وهذا القول يَعدّ الفطرة كاللوح الخالي، الذي يُكتب به -لاحقا- إيمان بالله، أو غير ذلك. لكن طُرحَ على أصحاب هذا القول سؤال: هل الفطرة مستلزمة للمعرفةِ والإيمانِ أم لا؟ إن قيلَ: لا، فلا فرقَ -حينها- بين الإيمانِ بالله، والكفر به، حيث كلاهما ممكن بالنسبةِ للفطرة.

وهذا القول لن يقولوا به -بحكم أنهم ينطلقون من أرضية إيمانية/إسلامية-وحينها ليس لهم إلا الإجابة بنعم؛ ومن ثمّ يُوجَّه لهم السؤال التالي: كيف تكون -إذن- لوحًا خاليا؟! لكنَّ هؤلاء الذين يعترضون يوردون القولَ التالي: «فتبيَّن أنَّ المعرفةَ لازمة، واجبة لها -أي للفطرة- إلا أن يُعارضها مُعارض» فما علاقة هذا المـُعارض بالجنون؟ سأُبيّن العلاقة بسؤال: هل العقل -بذاتيّته- يتوصَّل إلى الله، أم مُفتقر لغيره؟ إن كانَ الأول؛ فالقوة الفطرية -إذن- تخلو دائمًا من مُعارض، ولا مكان للجنون -بصفته فطرة- وإن كان الثاني؛ فالقوة الفطرية -إذن- قد لا تخلو من معارض، ومن ثمَّ قد يكون الجنون هو المعارض، وبيان كونه مُعارضًا، حين يُجعل الوصول إلى الله -فِطريًّا- باجتماع الناس واتفاقهم على الحق، فيكون المجنونُ هو المخالف للحقِ المتوارثِ بين الناسِ؛ لأنَّ العقلَ الذاتي -حينها- لا يخلو من سياقٍ يحوي عملًا متوارثًا عن تعاليم سابقة، واختلال هذا السياق هو الجنون. بهذا المعنى للفطرة، يأتي نَصُّ ابنِ حبيب بمعنيين: الأول: أنَّ اللوحَ الخالي هو الجنون، أي هو الفطرة/الخِلقة التي خُلِقَ، عليها المولود سالمًا، فإن تَعقَّل-بعد ذلك-فلن يهنأ له عيش؛ إذ سيدخل في أنفاقِ الخوفِ والقلقِ والشك. والثاني: أنَّ الاعتراض/الجنون هو الأصل في القوة الفطرية، ومن ثَمَّ احتاج الإنسانُ إلى مُذَكِّرٍ بسياقاتِ العمل المتوارث/التعقل.

المعنى الثاني للفطرة: هي البداءة التي ابتدأ اللهُ كلَّ مخلوقٍ عليها؛ أي قد يُبتدأ/يُفطر بشقاءٍ، أو سعادة. وهنا نعودُ إلى الجملةِ الواردة عند ابنِ حبيب، وهي «ولولا حمقه ما هنَاهُ العيش»، إذ هي تُشير إلى أنَّ الجنونَ فطرة بالبداءة؛ من حيث إنَّ ظُنونَ العقلِ عن إدراكه التامّ بالحياة غير صحيحة؛ إذ ما مصدر سعادته، إن كانَ يَعي -فعلًا- مأساة الحياة؟ فيكون الجنون -هنا-عامًّا؛ وهو مصدر النسيان، والسعادة. ومعنى الجنون -هنا- قد يكون حَلًا للجمع بين القولين المتضاربين، القول الأول الذي يقول إنَّ مَن فَطره اللهُ على الكفر؛ فإنَّ الله كتبَ مصيره أيضًا. وهذا القول يُلغي المشيئة المستقلة للإنسان. والقول الثاني يفصل بين كتابة الله لكفر الإنسان في اللوح المحفوظ، واقتضاء الشيء، أي أنَّ الكافرَ لا يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه، بل يولد سليما ثم لابدَّ أن يكفر، والكفر -هنا- هو التغيير، مثل البهيمة التي ولدت سليمة ثم عِيبَت. وهذا القول يصنع إشكاليةً أخرى، وهي ما مصدر الفجوة بين الطَبْع على الشيء، واقتضائه؟ وكيف تتكوّن بين الوعي النسبي والوعي المطلق؟ لهذا يأتي مفهومُ الجنون -هنا- ليحلَّ محل الشقاء والسعادة كمفاهيم مُطلقة، بل يجعلها -من خلال نسبيّة الوعي- متداخلة ونسبية، ومن ثمَّ يكون الإنسان يُوجد فعله الأخروي من خلال فِعْلِ التعقّل الوجودي النسبي بين شخصٍ وآخر. وهذا المعنى يتقاطع بشكلٍ ما، مع:

المعنى الثالث للفطرة: وهو أنَّ الجميعَ فُطِروا على الإيمان والإنكار، لكنَّ الذي يُحدد المصير هو الطوْع والكراهية، فمن استجابَ لهذه الفطرة طائعًا فسيكون سعيدًا، ومن استجاب كَرْهًا، فهو الشقي. لكنَّ الفرق بين ما قُلته عن إحلال الجنون محل الشقاء والسعادة، وبين هذا القول، هو أنَّ الإنسان -في الجنون- يُوجِد فعله -بنفسه- من خلال التعقل النسبي، وفي الوقت نفسه يظل الجنون -كمفهوم مطلق- باقيًا؛ لأنه سبب هناء العيش.