هل أقيم نوع من العلاقة المنظمة والواعية بين الذاتي والموضوعي في كتاباتي ككل؟ سئلت هذا السؤال، تأملته، فقلت:

أعتقد أنه لا بد لكل كاتب من أن تنعكس في كتاباته بعض جوانب حياته، خصوصًا إذا كان مسكونًا بهاجس تربوي يدفعه إلى توضيح الأفكار بضرب الأمثلة واختيار الشواهد، وفي الغالب ما يكون ذلك من المحيط الحضاري الذي ينتمي إليه الكاتب. وقد سبق لي أن وعيت بهذا مرتين على الأقل عندما كنت بصدد كتابة قسم من كتابي نقد العقل العربي. فعندما كنت أتحدث عن حياة العرب في الجاهلية استحضرت البيئة الصحراوية التي عشت فيها، وكان هناك في ذهني نوع من «التناص» ـ إن صح القول ـ بين بيئة عرب الجاهلية التي كنت أكتب عنها أو حولها وبين البيئة الصحراوية التي عشتها في مسقط رأسي فجيج. وحصل لي مرة أخرى هذا النوع من «التناص» بين بيئتين متماثلتين، وبصورة أقوى هذه المرة، وذلك عندما كنت بصدد الحديث عن مكة عند ظهور الإسلام في كتابي العقل السياسي العربي.

إن توزع القبائل في مكة كمركز وتوزعها خارجها كمحیط (قريش البطاح وقريش الظواهر) كان يشكل بالنسبة إلي بنية تدخل في علاقة تناص بنيوي متين مع بنية مدينة فجيج بقصورها، بمركزها ومحيطها. أضف إلى ذلك القدرة على تتبع شجرات الأنساب وتداخلها لدى القبائل العربية، الشيء الذي له ما يماثله في قبائل فجيج، بل وفي كل مجتمع قبلي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فـ «حفريات في الذاكرة، كانت تستهدف كما أشرت إلى ذلك قبل، ليس فقط التأريخ لتطور وعي صاحبنا وتشكل أناه، بل كانت أيضًا إلى التعريف بالبيئة الاجتماعية والطبيعية والسياسية والثقافية التي تشكل المجال الحيوي للطفل صاحب الوعي المؤرخ له. ولقد قصدت قصدًا الوقوف عند القادة الوطنيين الذين قادوا جيلي والجيل السابق له في رحاب العمل الوطني. بل يمكن أن أقول الآن إن ما كتبته عن مسقط رأسي فجيج قد جعل كثيرًا من المغاربة يكتشفون أنهم لا يعرفون المغرب. لقد قال لي أحد الأصدقاء: «كنت أسمع بفجيج ولكنني لم أكن أتصور أنها كما تعرفت عليها من خلال ما كتبت».

فأجبته قائلًا: «وهل تعرف ورزازات، وتارودانت، وتافيلالت، وتادلة، وأجدير، وسبتة، وتطوان؟ بل هل تعرف سلا والرباط وفاس ومراكش؟»

كثر الحديث اليوم عما يسمى «الجهة» وأعتقد أن «الجهة» هذه ستبقى مجرد مصطلح جغرافي وفضاء للكلام «الانتخابي»، إذا لم يعط لها بعدها التاريخي الحقيقي.

ولا يمكن إبراز ذلك الدور الأساسي والحاسم الذي قامت وتقوم به «الأطراف» في المغرب إلا إذا قمنا بهذا النوع من «حفريات في الذاكرة»: ذاكرة مدن «المركز» وذاكرة مدن وقرى «الأطراف»، أعني ذاكرة أهلها ورجالاتها وليس فقط ذاكرة آثارها ومآثرها.. إن الكثير منا لا يعرف مثلًا عن محمد بن عبدالكريم الخطابي إلا أنه ذلك البطل الذي قاد الثورة في الريف ضد الاحتلال الاسباني. فتصور أن كاتبًا ينتمي إلى مدينة «أجدير»، المدينة التي ينتمي إليها هذا البطل، كتب حفريات في الذاكرة ودار الحديث فيها عن محمد بن عبدالكريم الخطابي، على الأقل بمثل ما دار الحديث في «حفريات» صاحبنا على الحاج محمد فرج... إن القليلين من الشباب يعرفون أن بطل الريف محمد بن عبدالكريم الخطابي كان فقيهًا وقاضيًا قبل أن يتولى قيادة الثورة على المستعمرين.

و«الجهة» في المغرب ستبقى مجرد اصطلاح جغرافي إذا لم تستند على بعد تاريخي تحكيه ذكريات فردية تؤطرها الذاكرة الجماعية وتتعزز بها لحمة الوحدة الوطنية. ليس هذا وحسب، بل لقد اتصل بي أصدقاء من الجزائر وتونس وليبيا والسودان والسعودية وسورية... يقولون إن كثيرًا مما كتبته عن فجيج ينطبق أيضًا على القرى والواحات التي عاشوا فيها. وإذن فللمسألة بعد آخر، بعد عربي يعكس وحدة الحضارة العربية الإسلامية من الخليج إلى المحيط.

1996*

* باحث وأكاديمي مغربي «1935 - 2010».