قرأت مقالاً في الشرق الأوسط بعنوان (الأنوار والتنوير... أنوار ماذا؟ وتنوير من؟) ولأني قد كتبت مقالات كثيرة في تفكيك هذا النوع من مقالات (الرجعية الثقافية) غير المتعمدة، وأقصد بأنها (رجعية غير متعمدة) لأن أصحابها يحاولون الدخول في حوار ثقافي مع (واقعنا العربي)، لكنهم يتورطون بأن واقعنا الثقافي أقل مستوى وأضعف تكويناً مما (يعيشونه في قراءاتهم الأكاديمية)، وسأقرب المسألة بمثال: لنتخيل أكاديمياً تخصصه الدقيق الأدب المسرحي الفرنسي، ويعيش في بلد لا يوجد به معهد فنون مسرحية ويريد أن يستثمر معارفه الأكاديمية في التفاعل الثقافي، وهنا تقع المشكلة، فالواقع الثقافي الذي يعيش وسطه أقل بكثير من معارفه الثقافية عن واقع الأدب المسرحي في فرنسا منذ تسعة قرون تقريباً، والتي يشتغل عليها أكاديمياً بصفتها (وظيفة)، ستجده يترجم عن صراعات اليمين واليسار الفرنسي في نقاش (أدبهم المسرحي) ومآلات تطوره، بينما حركة المسرح منذ المرحلة الدراسية الأولى في بلده لم تتجاوز بضعة عقود، فليس إلا مسرح (لممثلين أولاد) ومسرح آخر ــــ إن وجد ــــ (للفتيات) في مدارس منفصله!!!؟!

وعليه فإن أطروحاته في (الترجمة) عن اليسار واليمين في الأدب المسرحي الفرنسي، لن تكون إلا أداة يستخدمها الرجعيون في مقاومة حركة التطور المسرحي، بينما كل مقاله ونقولاته المترجمة لن تقدم (للواقع الثقافي المسرحي) أي شيء.

نعود للمقال المشار إليه أعلاه ولنسقط هذا المثال عليه، فهو يناقش مفهوم الأنوار والتنوير وإشكالاته التاريخية منذ كانط، فهو يقدم عناوين كتب من نوع (التنوير: قيام وثنية حديثة)... الخ من عناوين في نقد التنوير، وصولاً إلى فوكو حيث ينقل عنه فيقول: (لا أدري ما إذا كنا سنصل يوماً إلى نضج البلوغ، الكثير في تجربتنا يقنعنا بأن التنوير، ذلك الحديث التاريخي، لم يوصلنا إلى البلوغ الناضج، كما أننا لم نصل تلك المرحلة بعد).

والمغالطة هنا أنه نقد يعنيهم هم في ظروفهم هم أما نحن فلم نتجاوز مرحلة (الصراع مع الإكليروس) حتى الآن، ومن يقول غير ذلك، فالواقع لن يؤيده، فالإسلام السياسي بشقيه الشيعي الخميني والسني الإخواني يشبه السرطان الذي تكافحه بالكيماوي ورغم ذلك تحتاج للمراجعة للتأكد من سلامة الجسم وعدم ظهور خلايا سرطانية جديدة.

علماً بأنه لا بد من الإشارة إلى أن كُتَّاب هذا النوع من المقالات الرزينة ـ حتى ولو لم تعجبنا ـ لا علاقة لهم بأولئك المثقفين (راكبي الموجات) مثل محمد عمارة، ولا من أولئك الأيديولوجيين مهما حازوا من (مهارة ومعلومات) أمثال عبدالوهاب المسيري، أبو يعرب المرزوقي، طه عبدالرحمن، وائل حلاق، بل هم ينتمون إذا جاز التعبير (للوسط التقدمي المحافظ!؟!!) بين أهل الحداثة وعرابيها، ولهذا فمقالي ليس إلا فاصلة صغيرة ومتواضعة بجوار كتبهم التي تحسب على التنوير الحقيقي، وقد استفاد كاتب المقال من بعضها لأهميتها الفكرية، إن صاحب المقال المشار إليه من نوافذ النور الحقيقية، ولكن المقال يفوق بمراحل احتياج المرحلة، فكأنما يتناقش الطلاب البسطاء في الهندسة الإقليدية ليستوعبوها فيجيء رجل ويرمي للطلاب مقالاً عن الهندسة اللاإقليدية في الرياضيات، فيقفز بعض الأولاد المتذاكين فيهذون أمام بعضهم بمقتبسات منها توحي بتجاوزهم أبجديات الهندسة الإقليدية، بل إن العقل البدائي لن يدرك التراكم العلمي وثمرته بقدر ما يدرك أنها مجرد صرعات وموضات معرفية لمزيد من (سيولة الثقافة) وتمييعها.

علماً بأن التنوير الذي يشبه (خبز الأم الدافئ) لم أجده إلا في أطروحات البليهي، وكذلك في أطروحات تربوي فلسطيني كبير لا يعرفه الكثير في أرضنا لأنه (نادر في طريقة تفكيره التي تتقاطع في بعض جوانبها مع نسق أطروحات إبراهيم البليهي، رغم أنهما لا يتشابهان سوى في أصالة الإحساس بقضايا النهضة الفكرية بشكل يشبه (خبز الأم الدافئ) علماً بأن سيرته الذاتية واسعة وثرية أكاديمياً وعملياً، إنه الأكاديمي الكبير المتجاوز للأكاديمية التقليدية (منير جميل فاشه) أقول هذا لأن مقال (الأنوار والتنوير... أنوار ماذا؟ وتنوير من؟) يعيدنا للمربع القديم عام 1938 ذلك الصراع بين المثقفين المحسوبين على خانة (التنوير) حول أولويات التنوير، ولنقرأ معاً هذا المكتوب بين الأقواس قبل قرابة قرن من الزمان:

(اعتراض أخير يوجه إلى هذا النحو من التفكير... يقال بعد ذلك إن أوروبا نفسها قد زهدت في حضارتها وضاقت بها، وأخذ جماعة من كتابها وعلمائها وفلاسفتها يرغبون عن هذه الحضارة، ويلتمسون لقلوبهم وعقولهم غذاء في روحية الشرق، أفنقبل على الحضارة الأوروبية حين يزهد فيها الأروبيون؟ وما لنا نكبر هذه الحضارة وقد أصغرها أصحابها؟ وما لنا نعرف هذه الحضارة وقد أنكرها أصحابها؟ وما لنا نترك الخير الذي يرغب فيه الأوروبيون إلى الشر الذي يرغب عنه الأوروبيون؟ أقرأت هذا؟ إن بين .... الشرقيين عامة قوماً يملئون به أفواههم، ويجرون به أقلامهم، ويلقون به في نفوس الشباب فلا يلقون فيها إلا سماً زعافاً، من الحق أن الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يقال إنها قليلة الحظ من هذه المعاني السامية التي تغذوا الأرواح والقلوب، من الحق أن الحضارة الأوروبية مادية المظاهر، وقد نجحت من هذه الناحية نجاحاً باهراً، فوفقت إلى العلم الحديث، ثم إلى الفنون التطبيقية الحديثة، ثم إلى هذه المخترعات التي غيرت وجه الأرض وحياة الإنسان، ولكن من أجهل الجهل وأخطأ الخطأ أن يقال إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادة الخالصة، إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح، إنها نتيجة الروح الخصب المنتج، نتيجة الروح الذي يتصل بالعقل فيغذوه وينميه ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج..... نعم إن هناك كتاباً وشعراء وفلاسفة يضيقون بالحضارة الأوروبية ولكنهم يبذلون حياتهم في سبيلها إن تعرضت للخطر، إن فريقاً من هؤلاء الكتاب والفلاسفة يولون وجوههم شطر الشرق أو يظهرون ذلك، ولكن ثق بأنهم يرفضون الرفض كله أن يعيشوا عيشة الشرقيين أو يسيروا سيرتهم، إن الضيق بالحياة الحاضرة خصلة يمتاز بها الرجل الراقي الحي، ولن يرضى عن الحياة رضا مطلقاً قوامه الإذعان إلا الذين خلقوا للخمول والخمود، فإذا رأيت الأوروبي يضيق بحياته ويزدريها فاعلم أنه ما زال حياً راقياً ممتازاً مستعداً للكمال، وإذا رأيت الأوروبي مذعناً راضياً قانعاً بما قُسِم له فاعلم أن دولته قد آذنت بالزوال...) ،

إن ما نقلته هو لأحد رواد النهضة العربية الحديثة طه حسين وهو يشتكي في كتابه (مستقبل الثقافة) من إشكالات واجهها قبل مائة عام تقريباً، ولهذا ففيما أصاب طه حسين كل العزاء لمن جاء بعده فيمن ألبسوا التفكير النقدي ثوب الترجمة والعكس.