التمييز بين الذكر والأنثى، من المسائل القديمة التي تتطور بتطور المجتمعات الإنسانية، وفي كل طور من أطوار التاريخ، تزداد المسألة تعقيدا، وتأخذ أشكالا جديدة مع تجدد أنماط الاقتصاد، ولم تستطع المجتمعات مع تطور قوانينها وتشريعاتها أن تلغي التمايز، وتمحو الفروق بين الذكور والإناث حتى في أكثر المجتمعات تقدما وتطورا.

تعيش شعوب العالم اليوم وفق متطلبات مجتمع السوق الاستهلاكية وتشريعاته، بمعنى أن التمييز بين الجنسين مسألة ستأخذ طورا جديدا، يحددها مجتمع السوق ويصنع لكلا الجنسين المعايير والقيم، ويحدد أدوارهما التي تتوافق مع طبيعة المجتمعات الصناعية الناشئة، التي خرجت لتوها من قيود المجتمع الزراعي.

وتفكيك العلاقات الاجتماعية القديمة، وإعادة تشكيلها مرهون بحركية الاقتصاد الشاملة، فالأدوار الاجتماعية للمرأة في العصور القائمة على اقتصاديات الصيد، تختلف عن أدوارها في العصور القائمة على اقتصاديات الزراعة، أو اقتصاديات الغزو والحرب، وبطبيعة الحال ستختلف عن الأدوار الاجتماعية للمرأة في المجتمعات الصناعية والقائمة على مبادئ السوق الاستهلاكية.

ظلت أدوار الأم وعاطفة الأمومة سمة ثابتة للمرأة في كل العصور، حتى مع اختلاف الأدوار الاجتماعية للمرأة في مختلف الأزمنة والعصور، والأمومة اليوم تعاني صراعا وجوديا مع ثقافة السوق الاستهلاكي ومصالحه، فكثير من النساء حول العالم يجدن صعوبة بالغة في التوازن بين أدوار الأمومة والتزاماتهن بأداء واجبات العمل الوظيفية، فقيم ومبادئ السوق الحديثة لا تحمي الأمومة ولا تدافع عنها، بل غالبا ما تتبنى أفكارا وسلوكيات مناهضة للأمومة، مع أنها أنقى العواطف الإنسانية وأكثرها سموا.

جابهت الأمومة حربا ثقافية ضد السوق ومفاهيمه ليس على المستوى الاجتماعي البسيط وحسب، بل تعدته نحو ساحة الدراسات والأبحاث الأكاديمية، لا سيما في الدراسات النسوية. وكأي نظرية قامت

«النسوية» على فرضية، تقول «إن المرأة ولدت صفحة بيضاء، وكيانا محايدا لا يحمل أي صفات»، بمعنى أن عاطفة الأمومة ليست سوى عاطفة مصطنعة غير حقيقية صنعها المجتمع -الرجال تحديدا- لضمان تبعية المرأة لهم، فكل خصائص النساء يمكن تحديدها وتشكيلها وخلقها، بواسطة الذكور وإلصاقها بكيان المرأة المحايد المستقبل لأي وظائف اجتماعية يحددها الذكور. هذه الفرضية التي تصور النساء بوصفهن كائنات محايدة، لا يحملن أي صفات تميزهن عن الرجال، هي التي تنطلق منها النظرية النسوية لإطلاق أحكامها الجائرة على عاطفة الأمومة السامية، فالنظرية النسوية أحيطت بالاهتمام من قبل الباحثين في الخطاب النسوي، لأنهم يعتقدون أنها طوق النجاة التي يمكن من خلالها إعادة التوازن في الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية بين الرجال والنساء.

الافتراض أن المرأة تولد صفحة بيضاء، يعني بالضرورة أن المجتمع هو المسؤول عن جعل الأنثى امرأة والذكر رجلا، ويعني بالضرورة - أيضا - أن المجتمع يمكن له أن يجعل الذكر امرأة والأنثى رجلا، عندما يشاء وحسب ما تمليه مزاجية الذكور. نستنتج من ذلك أن الأمومة ليست إلا مكتسبا اجتماعيا، يمكن تغييره أو توزيعه بين الذكور والإناث بالتساوي. نلاحظ هنا أن النظرية النسوية تمس إنسانية المرأة وتجردها من عواطفها الإنسانية، وتفرض عليها مقاومة طبيعتها ومشاعرها النبيلة، في حال رغبت في منافسة غريمها الرجل ومقاسمته المكاسب والفرص التي يقدمها سوق العمل.