وسائل الإعلام الحاضرة لدينا ابتداء من جرائدنا اللي زي بعضها.. حتى لكأنها توائم يخشى أباؤها.. وأولياء أمورها.. وهم أصحاب المؤسسات الصحفية أن تتغالى إحداها في الانفراد بسحنة خاصة جديدة.. كما بدأت تفعل عكاظ.. فتحرم من الانتساب العائلي.. وانتهاء بمذياعنا الوقور.. وتلفازنا المبارك.. كل هذه الوسائل الإعلامية ألهتنا في عجلة من أمرنا عن حلول الذكرى الخمسينية المقامة في جدة أمس الأول.. في غفلة.. وسكون.. وتجاهل تام لأول جهاز إعلامي بشري متحرك فيها.. أي في جدة.. أم الرخا والشدة!!

وفي هذا الدليل الحي على سرعة نسيان الأحياء للأموات الذين طاحوا.. ولم يسقطوا.. في ساحة النضال لرفعة شأنهم.. وسد نقصهم.. والقيام بواجباتهم.. وذلك بالإعلان المهم عن كل ما يهمهم مما حز في نفس كاتب هذه السطور.. بقلم ناشف.. ودعاه بعد أن خلع ملابسه إلى إعادة ارتدائها من جديد بعد منتصف ليلة أمس الأول وذهابه حالاً بالاً إلى مقر بقية العائلة الكريمة من أبناء وأحفاد العَمْ سَدَّيقْ.. كما كان الأوائل من أبناء بلدنا ينطقون الصاد سينا في لهجة شعبية.. سادقة!!

والاسم الكامل لعم سديق.. هو عم صديق حلواني المنادي.. والمنادي إضافة مهنية لحقت اسمه ولقبه بعد الاحتراف.. والحلواني لقب العائلة يعود كذلك إلى صنعة جد جده.. حيث حل محل لقبها الأصلي بالطبع.. وهي عادة درجت عليها ألسنة الناس.. يضيعون بها على الناس ألقابهم حين يرددون بدلها حِرفهم فتشيع.. وتلصق بصاحبها.. وهذا بحث اجتماعي طويل لا نرى داعيًا له الآن.. وإن كان قد دعانا له الاستطراد كعادة درجنا عليها.. أو كمرض مزمن في لساننا!!

الشاهد.. أو الأمر وما فيه.. أن كاتب هذه السطور حين ذهب في الذكرى الخمسينية لوفاة العم سديق إلى دار عائلته بعد منتصف الليل.. وبعد أن فتحوا له باب الشقة.. ولم يجد ما كان مقدرًا وجوده.. وقف حالاً.. ودون دعوة منهم.. خطيبًا بينهم.. قائلًا لهم في صوت حزين:

يا أفراد العائلة الحلوانية!! ما لي آراكم هكذا.. بين نائم.. ومن كأنه قائم من النوم؟! هل نسيتم الإعلامي الأول عم صديق؟ كيف طاوعتكم قلوبكم الصلدة.. ونفوسكم الجادة أن تتجاهلوا ذكرى وفاته الخمسينية إلى هاته الدرجة؟ بل كيف سمحتم لأنفسكم أن تقرؤوا الجرائد اليومية.. وأن تستمعوا للراديو.. وأن تشاهدوا التلفزيون من بعده وبالأخص في ليلة ذكراه الماسية؟ تالله لئن ضاعت أصداء صوته الجهوري القوي من أزقة جدة وأسواقها وشوارعها فإنها باقية في أسماعنا نحن صبية الأمس.. شيوخ اليوم!!

إن من حق تلك الأصداء أن تبقى بين جدران بيتكم الضيق هذا.. والضيق في الصدور.. وفي رحبة الحوش المجاور للزقاق الذي بقي من أصل سوق الندا الكبير القديم.. الأصلي.

ويا ريت.. أو ليت.. وهل تنفع هذه الليت. ليت أن المسجل قد فن في أيام المرحوم فسجل لنا ولأحفادنا ذلك الصوت الذي قلما يجود الزمان بمثله.. ولكنني أبشركم.. نعم!! أقولها بعلو صوتي أنا.. أبشركم أن هناك بحثًا علميًا تكنولوجيًا يدور من حوالي العشرين سنة لفرز الأصوات التي يقولون إنها باقية في الفضاء من قديم الزمان وسالف العصر والأوان.. ولسوف، إنْ أخذ الله وداعة الجميع منا ومنكم. يتمكن أحفاد أحفاد أحفادنا بسماع صوت المرحوم من جديد!!

إخواني!! ها؟ ايش قلتوا؟ هيا قولوا لي.. كيف سويتوا كذا يجماعة؟ ليش يناس عملتوا فنفسكم هادا اللي عملتوه؟ يعني هو عيب؟ يعني هادا يسير؟! ايش فيها الجرايد هادي اللي بتقروها كل يوم.. و.. و..

وعند و.. وهذه.. وقبل أن أعطف ما بعدها على ما قبلها من قولي المحرك للشؤون وللشجون معًا في قلوب ونفوس بقية أفراد عائلة عم صديق.. ابتدأ الكل ينشجون.. أو يمخطون ويلطعون وفي نفس الوقت يتعاتبون ويتلاومون.. وذلك فيما عدا الشاب الذي لم يدرس علم الآثار.. ولم يلم بعلوم الاجتماع.. أو بفنون الفولكلورات الشعبية بأنواعها.. حيث هب جالسًا.. بعد أن كان واقفًا.. ثم صاح في وجهي بقلة أدب متناهية.. وأشار الولد المتعجرف إلى الباب الخارجي علامة لطردي من البيت صائحًا بأعلى صوته: ومن هو عمك صديق حلواني هذا حتى تجيء في مثل هذا الوقت لإزعاجنا من أجله؟

هنالك.. والحق يقال للتاريخ وللأمانة الفنية.. تحركت ست الشاب -أي جدته- قائله له في أسى وصبابة.. وه!! وه!! يصادق.. هو أنت الين دحين ما تعرف إن أبو أبوك.. وقالتها وكأنها تشتمه.. اسمو صديق؟

بهذه التحميلة الموسيقية -على طريقة بعض كتابنا ونقادنا العصريين- ندخل إلى سرد سيرة شخصية شعبية لها في التاريخ الجداوي البعيد القريب أعمق الآثار وأبعدها في جميع النفوس والأسماع.. سيرة العم صديق حلواني المنادي.. والشهير بعم سديق!!

ولقد عثرنا لحسن الحظ مصادفة على استمارة قديمة من استمارات أيام زمان.. ومنها يمكن إلقاء الضوء كما يقولون.. على هذه الشخصية الخطيرة في دنيا الإعلام القديم.. وهذه الاستمارة مخطوطة بخط الكاتب العمومي الأستاذ المشاط المشهور مكانه بقهوة الجمالة على عهد شيخ المخرجين النجاوي:

س: اسمك؟ واسم أبوك؟ وعائلتك يا شيخ!!

ج: صديق صادق حلواني!!

س: اسم الحارة يبويا؟

ج: المنادي.

س: تيلادك.. يعمي؟

ج: أول السنة اللي جا فيها البابور جها نقير لجده أول مرة!!

س: محل ما انولدت.. يخويا؟

ج: جده.. سوق الندا.. جنب زاوية أبو سيفين!!

س: طولك بالدراع المعماري.. يا شيخ؟

ج: والله أنا قط ما قست نفسي.. بس أنا أعرف إني أطول من عمي ياسين!! وأقصر من خالي طاها اللي كانوا يقولوا لو: طاها.. الذي رخاها!!

وتقول بقية الاستمارة المكتوبة نيابة عن العم صديق المنادي بقلم الكاتب العمومي بقهوة الجمالة الأستاذ المشاط:

س: العلامات الفارقة.. يا وليد؟

ج: فقشة حجر في جبهتي.. وتشريط بالموسى في خدي.

س: أحسن غدوه.. عندك؟

ج: الصيادية.. والمشرمل للغموس!!

س: والعشوة..؟ خلصنا قوام!

ج: الفص.. يعني الفول.. ويا إما الكباب الميرو وإلا المقلية!!

س: بتستعمل ايش لحسك.. يعني لصوتك اللي زي الضاهية!!

ج: النبات الشيناوي.. وهو في أحسن منو؟

س: يا الله.. امظي هنا يشيخ.. وروح فحالك!! تعرف تمظي؟

ج: ـ لا.. ما أعرف أمظي.. لكن عندي المهر حقي.. خد.. خد.. اهو!!!

ورحمة بأذواق الأنجال والأحفاد من الجيل الجديد.. فإننا نقتصر على ما سلف.. ونترك الباقي من الاستمارة لمن سيوفقهم الله مستقبلاً للحفاظ على تراثنا الشعبي الباقي.. لننتقل إلى إعطاء هذه الشخصية حقها من السرد.. والشرح.. والتعريف.

1974*

* شاعر وصحافي سعودي «1911- 1979»