من القواعد الشرعية الجليلة قاعدة جعلها الشيخ ابن قيم الجوزية، والمشهور بابن القيم، - وهو غير الشيخ ابن الجوزي، وكلاهما من أهل الفضل والعلم - جعلها عنوانًا لفصل قيم في كتابه الشهير «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، وكررها في غيره، وهو قوله، رحمه الله تعالى: «تغير الأحكام بتغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد»، وذكر تحت ذلك الفصل: «..إن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة؛ وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله، صلى اللَّه عليه وسلم..»..

الشريعة، لمن سبر أغوارها، يعرف أنها تتجدد بتجدد النظر في مختلف النصوص الشرعية، وحسن الاستنباط منها، وإمعان النظر في تفاصيل الأحكام، وربطها بالأصول الشرعية، والمقاصد العامة التي تتوخاها المجتمعات في تعاملاتها بين أفرادها، مع الإيمان بأن المجتمعات قد تكتسب عادات وأعرافا وتقاليد لم تكن قد تعودت عليها، وبعضها صارت بمثابة القواعد والقوانين، التي لا يتحاكم الناس إلا إليها، وعلى من يتصدر المشاهد، خصوصًا المشهد الدعوي، التفطن لأعراف الناس، ومراعاتها، إن أراد أن ينفع ويستنفع.

المتصدر عليه واجب المعرفة والدراية بأعراف الناس في أقوالهم، وأفعالهم، وأحوالهم، ولا سيما أن أعراف من ندعوهم أو نعلمهم تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا بالإضافة إلى غيره من الواجبات، كفيل بتوصيل المتصدر نفسه إلى مرتبة الوصول إلى عقول الناس، كما قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب، الله ورسوله» رواه الإمام البخاري في صحيحه>

فقدرات الناس تختلف في الفهم والاستيعاب للأمور، ومن أساسيات العالم وطالب العلم أن يحدث الفرد أو الجماعة بما تستوعبه عقولهم، وبما لا ينفرون منه، مع ضرورة ترك ما قد يشتبه عليهم، ويصعب عليهم فهمه؛ حتى لا يصل الأمر إلى تكذيب الله سبحانه وتعالى، أو تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم>

ومعلوم أن الناس إذا سمعوا ما لا تدركه عقولهم، بادروا بتكذيبه، وعن هذا يقول سيدنا عبدالله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة»، ذكره الإمام مسلم في صحيحه، وهو ما يعني ترك الحديث الغامض مع الناس.

وهنا أختم بمن بدأت به مقالي، وأقصد الشيخ ابن القيم، رحمه الله تعالى، وعباراته الملهمة التي ذكرها في كتاب المقدمة (إعلام الموقعين)، وهو قوله: «ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبِّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان».