أحداث سريعة ومتلاحقة تستقبلها أسواق الطاقة وتضيق معها خيارات الرئيس الأمريكي بايدن لاحتواء أزمات غصّ بها النصف الأول من العام الجاري، بدءًا من زيادة التضخم ثم التدخل الروسي في أوكرانيا، تلتها العقوبات الأوروبية الاقتصادية على روسيا وازدياد المواقف السياسية تعقيدًا على المستوى المنظور، كل ذلك قبيل الانتخابات النصفية الأمريكية نوفمبر المقبل.

اجتمعت أوبك بلص، الخميس الماضي، وأقرّت الزيادة المتفق عليها لأغسطس بمقدار 648 ألف برميل يوميًا وأجلّت البتّ في مراجعة اتفاقية الحصص إلى نهاية يوليو رغم عجز بعض الدول في المنظمة عن الوفاء بحصصها الإنتاجية. لا شك أن أوبك بلص تنتهج الأسلوب المتحفظ جدًا والذي تفضّل معه متابعة التغيرات غير المتوقعة أحيانًا والبت فيها بشكل متزامن، وهذا الأسلوب أثبت فاعليته منذ بداية كورونا ليعطينا شعورًا واثقًا بقدرة المجموعة التي تضم إلى جانب دول أوبك روسيا حيث أصبح التناغم في العمل ملحوظًا، ما عزز مكانة اقتصادات تلك الدول وساهم في نشر الطمأنينة في فترة كان يمر العالم فيها بأكبر جائحة عرفها التاريخ ضربت الاقتصادات وغيّرت الكثير من مفاهيم العمل والأسواق.

حاليًا بدأت تتجلى آثار قرار الرئيس الأمريكي بالسحب من الاحتياطات الاستراتيجية للنفط، حيث بدأت تنخفض أسعار النفط بشكل تدريجي بالتوازي مع تزايد المخاوف من حدوث ركود اقتصادي قد يمتد إلى كساد بنهاية هذا العام بسبب زيادة معدلات التضخم وعدم حزم الإدارة الأمريكية للسيطرة عليه حتى الآن.

تواجه الإدارة الأمريكية معضلة شديدة التعقيد فيما يخص أسعار النفط ومنتجاته فالقيود التي وضعتها الحكومة الفيدرالية على أنشطة الوقود الأحفوري زادت من اعتمادها على النفط المستورد ومنتجاته. وفي حين تسعى بعض الولايات إلى تبني مصادر الطاقة النووية والطاقة المتجددة، إلا أن الضغط الروسي على أوروبا للنيل من أوكرانيا جعل الأمريكيين يواجهون المشكلة بشقين، شق داخلي، وآخر خارجي. ولا شك أن النفوذ الأمريكي في أوروبا مهدد بشكل أكبر من أي وقت مضى، وبالتالي فهي تضع مقدراتها الاقتصادية والسياسية كافة لتلافي الأزمة في أوروبا والمحافظة على نفوذها، دون الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا قد تكلّفها كثيرًا. وهذا يعني أن مشكلة الداخل الأمريكي قد تكون في الأولوية الثانية لإدارة بايدن مقابل أوروبا، وهو ما سوف ينعكس حتمًا على انخفاض شعبيته المتوقعة خلال الانتخابات النصفية.

سمح الأمريكيون لفنزويلا وإيران بشحن نفطهم إلى أوروبا لتعويض النقص، غير أن أوروبا نفسها تواجه مشكلات في تزايد الأزمات آخرها أزمة إضراب عمال النفط النرويجيين الذي يهدد بقطع 15-20 % من الإمدادات النفطية إلى أوروبا.

وبين هذا وذاك يبدو أن الأمور تسير في صالح بوتين الذي لم يواجه أي مشكلة في بيع نفطه إلى الهند والصين بسعر أقل من السوق وبالتالي تعويض السوق الأوروبي. ويبدو أن الهند والصين أيضًا تقومان بتصفية النفط وبيع مشتقاته ومكرراته إلى أوروبا والسوق الأمريكي وهما في أمسّ الحاجة إلى هذه المنتجات.

لا أشك أن السعر المناسب للدول المنتجة والمستوردة للنفط هو بين 80-90 دولارًا للبرميل. وهو ما أعتقد أنه ستستمر عليه الأسعار حتى نهاية العام 2025 مع بداية اعتماد الدول على الغاز والهيدروجين أكثر وأكثر. وحتى ذلك الحين ليست هناك طريقة أسلم من معالجة أزمة الطاقة التي ستبدأ مجددًا مع بداية فصل الشتاء حين تحتاج دول أوروبا وأمريكا الشمالية إلى المزيد من الغاز والزيت والكهرباء لأغراض التدفئة.

حاليًا، وعلى المدى القصير، يتضح أن أفضل الحلول للإدارة الأمريكية هو الاستمرار في السحب من المخزونات الاستراتيجية النفطية، ومحاولة تعزيز العمل المشترك مع السعودية التي تقود تحالف أوبك بلص لزيادة الإمدادات لمعالجة الارتفاعات الحادة، والأهم من ذلك ضبط التذبذب الحاد في الأسعار.

أما على المدى الطويل، فيهم أن تدعم أمريكا سياسيًا واقتصاديًا مشروع الشرق الأوسط الأخضر الذي تقوده السعودية، والتعاون الفني والتقني مع الدول النفطية لتبني الطاقة النظيفة والمتجددة.

كل هذا سيجعل الغرب في وضع أفضل مستقبلاً في حال حاول بوتين مساومة الأمريكيين باقتصاد أوروبا من خلال نزع قوة النفط والغاز من اليد الروسية. وبمعرفة أن أحد أهم مستهدفات دولة كالسعودية هو أن تصل في العام 2030 إلى 50 % طاقة تقليدية و50 % طاقة متجددة، هل ستتخلى أمريكا عن شرق أوكرانيا لمصلحة بوتين لإيقاف الأزمة مقابل كسب المزيد من الوقت وترتيب الأوراق؟ أم بوتين سيقابل أي تنازل بمزيد من الطموحات التوسعية؟، شخصيًا أرى أن الحل دبلوماسي بحت في نهاية النفق، لا أقل ولا أكثر.