مرة أخرى تثبت المملكة العربية السعودية كفاءتها والتزامها الكامل بأداء مهمتها المقدسة التي اختصها بها الله سبحانه وتعالى دون بقية أمم الأرض وشعوبها، وتقديرها العالي لضيوف الرحمن وحجاج البيت العتيق، أكدت المملكة قيادة وشعبا أن شعيرة الحج تكتسب الأهمية القصوى وتستحق تسخير كافة الإمكانات لأولئك الذين تركوا ديارهم وبلادهم وأعمالهم وجاؤوا إلى هذه الأراضي الطاهرة طمعا في رحمة الله وأملا في رضوانه وغفرانه.

خلال حج هذا العام 1443 الذي انقضى قبل ساعات، كتبت بلادنا فصولا جديدة بأحرف من نور في سجل المجد والفخار، وهي تثبت قدرتها العالية على إدارة الحشود وتأمين سلامتهم وضمان صحتهم، رغم التحديات الضخمة التي واجهتها في ظل تفشي جائحة كورونا واستمرار الفيروس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأثار الهلع.

وتكمن كلمة السر وراء نجاح أعمال الحج وراء مفردة بسيطة هي التخطيط والرغبة في الإجادة وصدق النوايا والإيمان العميق بالرسالة والهدف والغاية، فالجهات المختصة عكفت منذ صدور القرار بزيادة أعداد الحجيج في اجتماعات متواصلة، وتم اختيار الخطط العلمية المدروسة التي تواكب الواقع وتناسب الوضع السائد، فأقيمت ورش العمل التي شارك فيها كافة المختصين والخبراء، ووقفت القيادة على أعلى مستوياتها وراء سير العمل، وصدرت التوجيهات الصريحة الواضحة بما يجب أن يكون عليه التركيز، فكان النجاح حليفا طبيعيا لهذه الجهود.

من أبرز معالم النجاح التي اتسمت بها أعمال حج هذا العام بساطة إجراءات الحصول على التراخيص اللازمة، فالأمر لم يكن يستغرق وقتا طويلا، خصوصا للحجاج القادمين من الخارج، فكان التوسع الكبير في تطبيق مبادرة «الطريق إلى مكة» لتشمل هذا العام خمس دول، هي باكستان وماليزيا وإندونيسيا والمغرب وبنغلاديش.

هذه المبادرة الرائدة تشرف عليها وزارة الداخلية بالتعاون مع وزارات الخارجية والصحة والحج والعمرة، إضافة إلى الهيئة العامة للطيران المدني، وهيئة الزكاة والضريبة والجمارك، والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا»، وبرنامج خدمة ضيوف الرحمن، والمديرية العامة للجوازات، وشركة علم. وتقوم فكرتها على استقبال ضيوف الرحمن في بلدانهم وإنهاء إجراءاتهم بسلاسة كاملة، بدءًا من إصدار التأشيرة إلكترونيًا وأخذ الخصائص الحيوية، وإنهاء إجراءات الجوازات في مطار بلد المغادرة بعد التحقق من توافر الاشتراطات الصحية، وترميز وفرز الأمتعة وفق ترتيبات النقل والسكن في المملكة.

هذه الجهود تسهم في تفريغ الحجاج لشعائرهم وعباداتهم بدلا عن الانشغال بإجراءات إدارية روتينية.

كذلك كان اختيار الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى لإلقاء خطبة عرفة قرارا موفقا عطفا على معطيات كثيرة، فالخطبة لهذا العام شهدت التطرق لمضامين إسلامية عصرية تلامس واقع المسلمين واحتياجاتهم، فلم تكن عبارة عن مواعظ عامة بل شملت قضايا تشكل أهمية كبيرة للمسلمين في مختلف أنحاء العالم. وأسهم العلم الغزير للشيخ العيسى وأسلوبه المميز وقدرته العالية في اختيار المفردات المناسبة في تقديم تلك المفاهيم في قالب شيق استحق الإشادة والتقدير ونال إعجاب الحجيج وكافة من استمعوا لها.

هذه الخطبة التي تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات الحية نقلت للعالم أجمع نبض المجتمع الإسلامي وأشواقه وتطلعه إلى عالم خال من الصراعات ومليء بعوامل الاتفاق. عالم ينعم فيه المسلمون كغيرهم بالعدالة والحقوق ويتساوون معهم في الواجبات والالتزامات. هذه المفاهيم الراقية التي لم تعجب الحاقدين والكارهين والمتمسكين بالتشدد والإرهاب هي الصوت الحقيقي للمسلمين وما عداه لا يمثلهم ولا يعبر عن أشواقهم.

وبمثلما تسعى المملكة إلى تحويل مجتمعها وواقعها وفق معطيات العلم الحديث وتركز على التحول الرقمي، فقد شهدت أعمال الحج لهذا العام توسعا في استخدام وسائل التقنية الحديثة، مثل العديد من المنصات الرقمية التي تم إطلاقها فيما سبق، مثل (منصة الحج الذكي) وبرنامج (تفويج) وبرنامج (الرقابة على الخدمات)، وتوفير ساعات ذكية لتمكين الحجاج من طلب المساعدة الطبية والأمنية والتوجيه، وبطاقة (شعائر) الذكية المرتبطة بتطبيق إلكتروني لتسهيل أداء المناسك، إضافة إلى الاستعانة بالعديد من الروبوتات داخل الحرم الشريف للتعقيم، ولتوزيع ماء زمزم على الحجاج وتوجيه ضيوف الرحمن.

أما فيما يتعلق بالرعاية الصحية التي تم توفيرها فقد كان هذا الجانب هو مربط الفرس وورقة الرهان الرئيسية، فإذا كانت دول العالم تجد مشقة كبرى في توفير الرعاية لمواطنيها وسكانها داخل بلادهم، فإن المملكة لم تتردد في إعلان قدرتها على ضمان سلامة هذه الحشود الضخمة التي تتحرك في أوقات محددة إلى ذات الأماكن، وأوفت بالتزاماتها في هذا الشأن وسطرت أعلى درجات النجاح، بفضل ثقتها في قدرات أبنائها العاملين في الحقل الطبي.

أما أكبر المكاسب التي تحققت – من وجهة نظري – فهي تتمثل في ذلك التدافع الكبير للآلاف من أبناء وبنات الوطن الذين قدموا أروع صور التنافس على أعمال الخير. وكان لهؤلاء دور كبير في نجاح عمليات الحج، ورغم أن الأجهزة الرسمية المرتبطة بأعمال الحج تقوم بواجبها خير قيام، وتبذل كل جهدها لمساعدة هذه الحشود الهائلة من الحجيج، إلا أن ذلك الشرف لم يقتصر عليها وحدها وشاركها فيه الكثير من فئات المجتمع التي تقوم بواجبات عظيمة وأدوار قد لا يستطيع اللسان حصرها.

ومهما تحدثنا عن تلك الملاحم التي تشهدها أعمال الحج بصورة سنوية، إلا أن عناصر النجاح تتجدد وتتزايد بسبب الرغبة في الإجادة والتفوق والجهود المخلصة التي يبذلها القائمون على أداء هذه الشعيرة، ووقوف الدولة بكافة مستويات مسؤوليها على نجاحها، حيث لا يعلو صوت على تسخير الإمكانات والقدرات لخدمة ضيوف الرحمن ومساعدتم على أداء مناسكهم بكل يسر وسهولة.