تختلف الأحكام في علاقة المملكة العربية السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية كما تتنوع المواقف من أمريكا بالنسبة للسعوديين ومن السعودية بالنسبة للأمريكان، وتتفاوت المواقف الرسمية بناء على المستجدات والأحداث التي تطرأ على الساحتين الإقليمية والدولية، كما تتفاوت على المستوى الشعبي بحسب أنماط التفكير وردود الفعل.

فعلى المستوى الرسمي السعودي تتأسس العلاقة السعودية الأمريكية على حزمة من العوامل الاقتصادية والأمنية والعسكرية تنبني عليها المواقف السياسية والاجتماعية محكومة بالمصالح الوطنية والتفاعلات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وهي مبنية أولا وأخيرا على المبادئ السعودية الأخلاقية الثابتة دائما والواضحة أبدا، فيما تتأسس من الجانب الأمريكي على المصالح الاقتصادية أولا، وسياسة الاستقطاب في فترة القطبين أيام الحرب الباردة التي استمرت 34 عاما (1945-1979) والدواعي الانتخابية بمؤثراتها الأيديولوجية لدى الحزبين الديموقراطي والجمهوري، فالدواعي الانتخابية بطبيعتها متلونة ومواربة، وسياسة الاستقطاب يحكمها النفاق السياسي وعقد الصفقات من تحت الطاولة المختلفة عن محادثات مافوق الطاولة.

أما على المستوى الشعبي فإن الشعب الأمريكي المغرق في محليته كان يرى في القرن الماضي السعودية خيمة وجملا وبئر بترول، ومع ثمانينات القرن الماضي بدأت تظهر في المشهد صورة الملتحي المتشدد الذي تمت شيطنته إعلاميا وسينمائيا ليضاف إليه مظهر الإرهابي المنغلق التفكير الدموي، وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتعزز هذه الصورة، ثم ترسخت بصورة أكبر مع قيام حركة داعش وربطها بالسعودية، مع أن اسمها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ينفي هذه الصلة، كما أن أميرها عراقي وأعضاؤها من شتى أنحاء العالم بما فيهم أمريكا نفسها وأوروبا، والسعودية ممن اكتوى بنار إرهابها، وبعض أبناء السعودية كانوا حطبا في تنورها، وهذه نظرة ليست جديدة، فمند عام 1945 وصفوا اللقاء بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت بأنه «وضع أسس ميثاق بين رئيس أرستقراطي منتخب وشيخ حكم مملكة صحراوية متحالف مع واعظ متشدد» على حد تعبير إنديك وكوك.

وعلى المستوى الشعبي السعودي فإن الغالبية العظمى من السعوديين ينظرون إلى الأمريكيين نظرة صداقة ومحبة منذ أوائل العاملين في أرامكو بالشرقية وTWA في الخطوط السعودية بالغربية والمستشارين والخبراء العسكريين في المدن العسكرية في مختلف مناطق المملكة، ثم نظرة احترام وتعايش مع البعثات التعليمية الكبيرة على مدى سنين طويلة من النخب التي درست في أمريكا ثم عادت وتسنّمت أعلى المناصب وشكلت جزءا فاعلا من مجموع القيادات التنفيذية في هذه البلاد، وبعد ذلك تعمقت العلاقات بين السعوديين والأمريكيين في شتى المجالات.

من يحب ويكره أمريكا

في الوقت نفسه ينظر العرب ومن ضمنهم السعوديون إلى الساسة الأمريكيين نظرة مختلفة قوامها الغطرسة والعنجهية وعدم الموثوقية، وإلى السياسة المنافقة المزدوجة في كل شيء، فهي منافقة في سياستها الداخلية أمام الناخب الأمريكي مختلفة عن وجهها في السياسة الخارجية، فما يصرح به الرئيس الأمريكي علنا يقوم أركان حكومته من دفاع وخارجية وأمن قومي واستخبارات بزيارات خارجية يقولون فيها سرا خلاف ما أعلنه، ومنافقة من حيث مبادئها التي تقدم نفسها على أنها دولة سلام ديموقراطية تدعم الحرية واستقلالية الدول وسيادتها وعدم التدخل في شؤونها وفقا لمبدأ مونرو، نراها في الواقع تمارس دورا استعماريا وتتدخل في شؤون الدول بشعارات حريرية، وأحيانا تدخلا سافرا بدءا من حملاتها العسكرية إلى الدومينيكان ونيكاراغوا وهاييتي في مطلع القرن العشرين، وانتهاء بغزو الصومال وأفغانستان والعراق، ومع ذلك تدعي أنها دولة راعية للسلام والحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات، وكما يقول الأمريكان: «إذا كان هناك شيء يشبه البطة وصوته كالبطة ويمشي كالبطة فهو بالتأكيد بطة»، كما أنه لا يمكن الوثوق بأي تحالف مع الأمريكيين أو بوعد من وعودهم، والأحداث كلها أثبتت تخلي أمريكا عن حلفائها، وعبر عنها الرئيس حسني مبارك بالتعبير المشهور: «المتغطي بأمريكا عريان»، وما تجارب العرب عنها ببعيد، ففي الوقت الذي استهل فيه الرئيس باراك أوباما زيارته لمصر بكلمته في جامعة القاهرة 2009 وتحدث فيها عن التطرف العنفي تفاوض مع الإخوان المسلمين واندلعت الثورة فيها بعد سنة ونصف السنة ونعلم جميعا ماتم فيها، مما دفع الشيخ محمد بن زايد إلى أن يقول له: يظهر أن الولايات المتحدة ليست شريكا يمكننا الاعتماد عليه على المدى الطويل، وهذا الكلام نقله أوباما في مذكراته، وفي الوقت الذي كان يزور فيه الدول العربية ومن ضمنها السعودية كان فريقه يعمل على مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كشفت تفاصيله لاحقا وما أسفر عنه من دمار في الدول التي مر بها ربيعه العربي، وحتى في حرب اليمن كان هناك تنسيق بين دول التحالف العشر والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأعلنت إدارة أوباما وقتها عن دعمها للتحالف بالوقود والاستخبارات وموافقتها على بيع السلاح لمواجهة المدّ الإيراني في اليمن، وعلى الرغم من استهداف الحوثيين للمدنيين والأعيان المدنية وسقوط الضحايا بسبب الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانية خذلت الإدارة الأمريكية الشرعية اليمنية والتحالف بقراراتها المتراجعة، ولذلك عندما تساءل الرئيس جورج بوش أمام الكونجرس بعد أسبوع من تفجير مركز التجارة العالمي: لماذا يكرهوننا؟ كنت علقت وقتها بأن العالم كله من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط يحبون النظام الأمريكي American system ولكنهم يكرهون السياسة الأمريكية American policy.

وعدا غالبية السعوديين هناك فئات تكره أمريكا من منطلق أيديولوجي يساري أو شيوعي أو فكر نضالي متأثر بالبعثية والناصرية أو وجداني ديني متعاطف مع قضية فلسطين ومتأثر بالمنظمات بصرف النظر عن الموقف الرسمي أو الشعبي، وفئات أخرى ذات وجهين؛ وجه يكره أمريكا في العلن يتلبس بلبوس الدين ويرى في كراهية وجهاد الغرب الكافر عقيدة ضمن قاعدة الولاء والبراء، ووجه آخر مسكوت عنه يقبلون كل شيء منه ويتعاملون مع نظامه وسياساته وحتى يتلقون منه دعما ماديا ومعنويا سريا كشفت عنها الوثائق الأمريكية وفق قانون رفع السرية 13526، وما سوى هذه الفئات مجرد شعارات مؤقتة مرهونة بوقتها.

قد يقول قائل: إن هذا التبويب لتوصيف مواقف كل طرف من الآخر السعودي والأمريكي على المستويين الرسمي والشعبي منحاز إلى السعودية بحكم أن كاتبها سعودي، كما أن أي كتابة عن السعودية في الواشنطن بوست والنيويورك تايمز وغيرها منحازة بالضرورة ضد السعودية وفقا لأيديولوجيات القائمين عنها بصرف النظر عن قناعات المحررين، ومع أن هذا الاعتراض وجيه ومنطقي نظريا إلا أن هذه مقابلة غير دقيقة، فمواقف هذه الصحف تجاه السعودية واضحة ومعروفة لمستها وسمعتها منهم في لقاءاتنا المتكررة بهم في مقراتهم وفي مراكز الأبحاث بواشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وفرجينيا منذ عام 1999، والتبويب الذي ذكرته هو رأي إعلامي راصد ومتابع عن قرب لهذه العلاقات مدا وجزرا صعودا وهبوطا، والتقى بالمسؤولين والباحثين والإعلاميين الأمريكيين ولا يعبر عن الرأي الرسمي للحكومة السعودية.

ويمكن أن أضع في مقابل التبويب الذي ذكرته وجهة نظر أخرى من الجانب الأمريكي لا تصنف على أنها تعبر عن الرأي الرسمي الأمريكي أو الشعبي، وتدعي لنفسها أنها محايدة وغير منحازة كما كنت محايدا وغير منحاز، وهي أقرب إلى الرأي البحثي الموضوعي المستقل، ووجهة النظر هذه هي تقرير صدر عن مجلس العلاقات الخارجية الشهر الماضي (يونيو 2022) قدمه باحثان هما ستيفن كوك ومارتن إنديك يقدمان فيه تصورا لأجل اتفاق استراتيجي جديد بين الولايات المتحدة والسعودية.

ويعرّف مجلس العلاقات الخارجية (CFR) نفسه بأنه منظمة مستقلة غير حزبية ومركز أبحاث ليكون مصدرًا لأعضائه والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال التنفيذيين والإعلاميين وغيرهم من أجل مساعدتهم على فهم أفضل للعالم وخيارات السياسة الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة والدول الأخرى، وأنه ليس له أي ارتباط بالحكومة الأمريكية.

اتفاق استراتيجي جديد

ذكر التقرير المطول أن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية حافظتا على علاقات وثيقة لمدة ثلاثة أرباع القرن منذ لقاء الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود على متن السفينة يو إس إس كوينسي، ووثقت علاقتهما أمور مشتركة مثل النفط مقابل الأمن، والكراهية المتبادلة نحو الشيوعية خلال الحرب الباردة، لكن هذه الشراكة تعرضت لنوع من الحرج يصل أحيانا إلى حد التوتر بسبب موضوعات تتعلق بسياسات الدولتين وخاصة تباين وجهات النظر تجاه إسرائيل والاختلاف في الأنظمة والقيم، وفي السنوات الأخيرة تعرضت الشراكة لمزيد من التوتر، فأصبحت أمريكا شديدة الانتقاد لمجموعة من الملفات، والسعودية ترى أن الموقف الأمريكي محبط فيما اعتبرته ليونة أمريكية تجاه إيران وتراجعا في موثوقيتها.

ورأى التقرير أن الظروف قد تتطور للمصالحة بين البلدين، فالحرب الروسية في أوكرانيا والتضخم في الداخل الأمريكي والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة واقتراب إيران من وضع المتطلبات الأساسية لبرنامج الأسلحة النووية جدد الاهتمام بالسعودية كواحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، والوحيدة التي لديها القدرة الكبيرة على زيادة وسرعة الإنتاج، وكذلك اهتمام إدارة بايدن بفتح التقدم في القضية الفلسطينية وعلاقة دول المنطقة بإسرائيل، ولذلك تحتاج الدولتان إلى التفاوض على اتفاقيات متبادلة يلتزم كل طرف بموجبها بالتزامات متوازية، فكما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الشريك السعودي فإن السعودية بحاجة إلى الشريك الأمريكي الموثوق به، ويرى الباحثان كوك وإنديك أن البحث عن حل مشترك أفضل من الانفصال أو المصالحة الضيقة.

ويقدم التقرير من خلال السياق التاريخي الموضوعات المثيرة للتفكير من أجل مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية، فمنذ اتفاق روزفلت وعبدالعزيز عام 1945 الذي صمد وتطور مع الوقت بصورة واضحة ومباشرة، على الرغم من الاختلاف بين النموذج الديموقراطي الأمريكي في الغرب والنموذج الديني في العالم الإسلامي.

ظهر التحول عندما بدأت أمريكا بالاستغناء عن نفط الخليج، والسعودية لديها قائد شاب جديد لا يهتم بالقواعد التقليدية للشراكة، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا ارتفع سعر النفط إلى 125 دولارا للبرميل، ورفض ولي العهد السعودي طلب الرئيس بايدن أن تلعب السعودية دورها التقليدي بإطلاق المزيد من النفط في السوق لكبح الأسعار، وحتى رفضها لتلقي مكالمة الرئيس.

المفارقة هي أنه حتى مع انخفاض الاعتماد الأمريكي على النفط السعودي بشكل كبير، وتقليلها من أهمية الشرق الأوسط في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية فإن السعودية أصبحت أكثر أهمية وليست أقل أهمية، فالولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق الاستقرار في منطقة متقلبة، وإلى تخفيض أسعار النفط في سوق يتأثر بالجغرافيا السياسية، وفي الوقت نفسه تدهورت البيئة الأمنية في المنطقة بسبب نمو التهديدات الإيرانية، وليس لأمريكا بدائل أخرى موثوقة عدا السعودية.

وبعد هذه المدة بات من المهم إعادة تقييم العلاقة من الجانبين، لأنه إذا لم يتم اتخاذ إجراء عاجل فإن من المرجح أن تتسارع عملية الانفصال وتلحق الضرر بمصالح الجانبين، وتجديد الاتفاق الأصلي هو إجراء علاجي مؤقت وستعود المشاكل، ولذلك لا بد من إعادة النظر في الاتفاق بشكل مستدام وعاجل وليس آجل، وستحتاج الولايات المتحدة إلى الاعتراف بأنه خلال الانتقال لعقود من الزمن بعيدا عن الوقود الأحفوري سيظل دور السعودية مهما في استقرار أسعار النفط وفي استقرار المنطقة، وإذا كان على السعودية أن تلعب دورا أكثر فاعلية ومسؤولية في تعزيز الاستقرار والأمن الإقليمي وحل النزاعات فإنه يتعين على الولايات المتحدة تقديم الدعم لهذا الدور مع ضمانات أمنية أقوى وأكثر واقعية.

باختصار: المطلوب تجديد حقيقي للمعاهدة الأساسية التي استمرت لنحو ثمانية عقود، وهذا لن يكون سهل التحقيق، ويتعين على الجانبين تقديم التنازلات وتعديلها بطرق جوهرية إذا أرادوا صياغة ميثاق استراتيجي جديد للقرن الحادي والعشرين.

1973 تحديات النفط مقابل الأمن

كانت العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مبنية على ركائز النفط السعودي وضمانات الأمن الأمريكي، لكنها أصبحت متشابكة مع الاهتمامات العالمية، لا سيما احتواء الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، واتفاق الأمن مقابل النفط لم يكن بدون تحديات كبيرة، فخلال حرب أكتوبر 1973 قادت السعودية المقاطعة النفطية العربية للولايات المتحدة وأوروبا واليابان لتوليد الضغط الغربي على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، وأدت مضاعفة سعر النفط بسبب الحظر إلى ركود في الغرب وتدهورت العلاقات بشكل سيء لدرجة أن مستشاري نيكسون ناقشوا التدخل العسكري للاستيلاء على حقول النفط السعودية، وعلى الرغم من أن السعوديين لم يستخدموا النفط مرة أخرى كسلاح في الصراع العربي الإسرائيلي فقد ترك الحظر عام 1973 انطباعا قلقا لدى جيل من الاقتصاديين الأمريكيين يعتبرونه معاقبة للولايات المتحدة لمساعدتها إسرائيل.

1979 عام محوري

في هذا العام تغيرت العلاقات الأمريكية السعودية بشكل كبير، ففي نوفمبر أطيح بشاه إيران، وأطيح بحوالي 66 جنديًا أمريكيا ودبلوماسيين وحراس مشاة البحرية التابعين لهم أخذوا رهائن في طهران، وفي الشهر نفسه احتل المتطرفون المسجد الحرام في مكة، وفي عشية عيد الميلاد 1979 غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان، كانت الثورة الإيرانية نكسة كبيرة للولايات المتحدة وشكلت تهديدًا للأمن السعودي، لكنها كانت أيضا فرصة للرياض، إذ جعلت الإطاحة بالشاه، السعودية أكثر أهمية للولايات المتحدة، كما أن استيلاء موسكو العسكري على أفغانستان دفع الرئيس جيمي كارتر إلى الالتزام بالدفاع عن حقول نفط الخليج من العدوان الخارجي فيما عرف بيانه باسم عقيدة كارتر.

الثمانينات: تعاون مكثف

نجحت الجهود الأمريكية السعودية في استنزاف السوفييت في أفغانستان جنبًا إلى جنب مع باكستان، كما أقنعت السعودية إدارة ريغان بدعم العراق، فقدمت الولايات المتحدة لصدام السلاح والنصائح العسكرية والاستخبارات الميدانية والدعم الدبلوماسي، في غضون ذلك دعمت السعودية ودول الخليج «صداما» بـ30 مليار دولار وبقروض بقيمة 40 مليار دولار، ولكن تعرضت الشراكة الأمريكية السعودية لانتكاسة منتصف الثمانينيات عندما باعت أمريكا أسلحة لإيران لتأمين إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في لبنان من قبل حلفاء إيران هناك، واستخدمت عائدات المبيعات لتمويل حرب العصابات في نيكاراغوا، وهو ما حظره الكونجرس.

صُدم السعوديون من الولايات المتحدة عندما أصبحت المؤامرة علنية في عام 1986، ولكن خيبة الأمل لم تدم طويلا، ففي 2 أغسطس 1990 غزا صدام الكويت، وانتشرت القوات العراقية على الحدود السعودية الكويتية وأصبحت في وضع يسمح لها بالسيطرة على إمدادات النفط، فقام السعوديون بالتحالف مع الولايات المتحدة، ونشر الرئيس بوش (الأب) قوة تزيد عن 500.000 جندي تدعمها القوات العسكرية من 36 دولة أخرى على رأسها السعودية، وكان الغرض حماية منابع النفط وضمان التدفق الحر له بأسعار معقولة وتحرير الكويت.

التسعينات: القلق والخيبة

فتحت حرب الخليج فرصة من أجل السلام في الشرق الأوسط، وعملت الولايات المتحدة والسعودية معًا في مسعى أكثر إيجابية، فسهلت السعودية مساع دبلوماسية لوزير الخارجية جيمس بيكر لتقريب الأطراف في مؤتمر مدريد للسلام 1991 مع إسرائيل، لطالما كان عدم تحقيق العدالة للفلسطينيين مصدر قلق لملوك السعودية، تمامًا كما كان الدعم الأمريكي لإسرائيل مصدرًا للتوتر بينهما منذ بداية علاقتهما، لكن ولي العهد الأمير عبدالله - الذي أصبح الحاكم الفعلي المملكة العربية السعودية في عام 1995 - كان محبطا بسبب عدم قدرة كلينتون على تحقيق سلام نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وشعر كلينتون بدوره بخيبة أمل بسبب عدم وجود ضغط سعودي كاف على الفلسطينيين لتحقيق رغبته، كما اتبع كلينتون سياسة «الاحتواء المزدوج» للإبقاء على إيران والعراق - الخصوم الإقليميون للمملكة العربية السعودية - تحت المراقبة والحفاظ على وجود عسكري أمريكي قوي داخل المملكة العربية السعودية.

في أواخر عام 1995 أصبحت أمريكا هدفا للقوات الإيرانية والجهادية في السعودية، قنبلتان قتلتا خمسة أمريكيين خارج منشأة تابعة للحرس الوطني السعودي في الرياض، وفي يونيو 1996 قصف عملاء إيرانيون يعملون في المنطقة الشرقية مجمعا سكنيا بالخبر يؤوي أفرادا من الجيش الأمريكي، وأسفر الهجوم عن مقتل 19 أمريكيًا، وتعاونت الأجهزة السعودية مع التحقيقات الأمريكية في الوقت الذي كانت لا تحظى فيه بشعبية من الوجود العسكري الأمريكي في المملكة، ونقلت الولايات المتحدة عملياتها العسكرية من قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية إلى موقع أكثر عزلة جنوب شرق الرياض ثم الخروج في النهاية من البلد برمته.

تفاقمت تلك التوترات أثناء رئاسة جورج بوش (الابن) مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، حيث أثار البث التلفزيوني لضحايا فلسطينيين غضب السعوديين الذين كانوا يعتقدون أيضا أن البيت الأبيض أعطى الإسرائيليين «الضوء الأخضر» لاستراتيجيتهم ذات القبضة الحديدية رداً على الانتفاضة، ونتيجة لذلك هدد ولي العهد الأمير عبدالله بإعادة التقييم الثنائي للعلاقات مع الولايات المتحدة، وتم تفادي أزمة العلاقات عندما وعد بوش ولي العهد أنه سيدعم علنا قيام دولة فلسطينية، وهو ما فعله في يونيو 2002.

اختلفت سياسة الولايات المتحدة منذ هجمات القاعدة الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، فقبل 11 سبتمبر كان 56 % من الأمريكيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه المملكة العربية السعودية وفي أعقاب ذلك انخفضت الموافقة إلى 27 %، ومع ذلك ظلت العلاقة بين الحكومات تعاونية، حتى عام 2003 عندما أطلقت القاعدة موجة من الهجمات داخل السعودية، وفي وقت لاحق تم تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب بشكل كبير.

لكن غزو بوش للعراق في مارس 2003 أدى إلى تفاقم الخلافات على المستوى الرسمي، السعوديون اعتبروا صدام خطرا، ولكن طالما ظلت واشنطن مصممة على احتوائه، لم يكونوا قلقين بشكل مفرط، حتى في دولته الضعيفة تحت العقوبات الدولية لا يزال صدام يعمل كثقل موازن ضروري لطهران، كانت القيادة السعودية متشككة في هدف بوش المعلن المتمثل في تحقيق المزيد من الانفتاح، وأثبتت السعودية صدق مخاوفها بأن تغيير النظام قد ينتج عنه فوضى وفرصة للإيرانيين لتعميق نفوذهم في العراق عبر الشيعة هناك.

وعلى الرغم من أن قدرة العراق المتضائلة على مقاومة إيران كانت نتيجة لغطرسة الولايات المتحدة وسوء التخطيط رأى السعوديون شيئًا آخر، حيث كانوا يشتبهون في أن واشنطن من خلال هندسة طهران الجديدة يتيح لها نفوذا في بغداد، وأن السعى إلى التقارب سيجعل إيران الشريك الأساسي للولايات المتحدة في الخليج مرة أخرى.

أجندة الحرية

في خريف عام 2003 أعلن بوش وسط ضجة كبيرة في واشنطن أنه سيتابع قُدُما استراتيجية الحرية في الشرق الأوسط، كما أعلنت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في القاهرة في يونيو 2005 أن الولايات المتحدة على مدى ستة عقود سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية ولم يتحقق أي منهما، والآن نحن نتخذ مسارًا مختلفًا، نحن ندعم التطلعات الديمقراطية لجميع الناس، وعلى الرغم من أن إدارة بوش ركزت جهودها على سياسة الإصلاح في مصر والسلطة الفلسطينية، خشي السعوديون من آثار زعزعة الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة، والسعودية التي كانت تعتمد على الولايات المتحدة لتعزيز الاستقرار في جوارها الخطير أصبحت واشنطن مصممة على تقويض هذا الهدف.

عندما تولى الرئيس باراك أوباما منصبه في عام 2009 تحققت أسوأ الكوابيس، ففي البداية كان السعوديون سعداء عندما عين الرئيس الجديد مبعوثا خاصا للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وضغط على الحكومة الإسرائيلية بشأن وقف الاستيطان، وضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لتأييد قيام دولة فلسطينية، كما رحبوا بتواصل أوباما مع المسلمين في خطابه في جامعة القاهرة في يونيو 2009 وأعاد تأكيده على تعزيز الديمقراطية في المنطقة.

وفي الوقت نفسه كان عزم إدارة أوباما على مد يد العون لإيران والانسحاب من العراق وتركها في يد قيادة شيعية جديدة بما في ذلك رئيس الوزراء الذي كان مدينًا بشكل واضح لطهران وآخرين كانوا مدعومين بشكل علني من قبل الإيرانيين - كان سببا للقلق العميق في الرياض.

تحول القلق إلى جرس إنذار عندما أيدت إدارة أوباما علناً الانتفاضات العربية (غالبًا ما تسمى الربيع العربي) وأوباما نفسه طالب الرئيس المصري حسني مبارك بالتنحي، أي أن الولايات المتحدة تستطيع بسهولة أن تنقلب على أقرب حليف لها في العالم العربي، وفي حالة الانتفاضة السورية اختارت الولايات المتحدة عدم التدخل بعد الرد العسكري لبشار الأسد على الاحتجاجات بمساعدة كبيرة من إيران، وبحلول عام 2012 كانت ثلاث عواصم عربية - بغداد وبيروت ودمشق - تحت السيطرة الإيرانية، ومن المنظور السعودي فإن السياسة الأمريكية كانت مسؤولة بشكل مباشر عن نفوذ طهران المتزايد في اثنتين منها، وتفاقم القلق بسبب عزم أوباما على عقد اتفاق نووي مع إيران، إلى جانب نيته إعادة توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال «التمحور» في آسيا.

أقر الكونجرس قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب JASTA ، التي عدلت العديد من القوانين وأضعفت المطالبات «الحصانة السيادية» التي يمكن أن تحمي الحكومات الأجنبية في المحاكم الأمريكية، وكان الهدف من هذا التشريع فتح الطريق أمام الضحايا من هجمات 11 سبتمبر وعائلاتهم لمقاضاة السعودية بدعوى تواطؤ سعودي رسمي مع القاعدة، اعترض أوباما على مشروع القانون لكن مجلس الشيوخ تجاوزه بأغلبية 97 صوتا.

بعد فترة وجيزة من أداء ترامب اليمين الدستورية اختار الرياض كموقع لزيارته الخارجية الأولى، ووافق على بيع الأسلحة التي تفاوضت عليها إدارة أوباما، كما أشار إلى نيته الانسحاب من خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) وممارسة «أقصى ضغط» على إيران، ولكن عندما شنت إيران في سبتمبر 2019 هجومًا صاروخيًا بطائرات بدون طيار وصواريخ على منشآت بقيق وخريص النفطية بالسعودية وعدم رغبة ترامب في الرد ألقى بظلال من الشك على التفاهم في العلاقات الثنائية.

في نفس الوقت كان صعود الصين يمثل تهديدًا جديدًا وأكثر تعقيدًا للولايات المتحدة مما يتطلب من صانعي السياسة تحويل التركيز من الشرق الأوسط إلى آسيا، وبدأت عملية التقشف في عهد أوباما لكنها تعززت في عهد ترامب بغرائزه الانعزالية، وعزز بايدن الاتجاه بتفعيل شعاره «أمريكا عادت» من قبل إنهاء التشابكات الخارجية التي قوضت قوة وهيبة أمريكا، وأصبح الشرق الأوسط أولوية أقل بالنسبة لواشنطن أكثر من أي وقت مضى في العقدين الماضيين، ونتيجة لذلك أصبحت الولايات المتحدة شريكًا أمنيًا أقل موثوقية.

خلال حملته الانتخابية وعد بايدن بمعاملة السعوديين كمنبوذين، وأنهى دعم الولايات المتحدة للحرب في اليمن وأوقف جميع مبيعات الأسلحة إلى المملكة، وأعلن وزير الدفاع أوستن سحب الولايات المتحدة باتريوت ومحطة الدفاع عن منطقة الارتفاعات العالية (ثاد) البطاريات المضادة للصواريخ من المملكة في الوقت الذي كانت فيه المطارات السعودية المدنية والمنشآت النفطية تتعرض لصواريخ وطائرات مسيرة للحوثيين، وتزامنت عمليات الانسحاب هذه مع الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة في الخليج، ومفاوضات إدارة بايدن مع إيران بشأن الاتفاق النووي أرسلت إشارة لا لبس فيها إلى السعودية بعدم موثوقية الولايات المتحدة، وشعر كل جانب أن الآخر لم يعد حريصا على التزاماته تجاه العلاقة.

وقت لإعادة التقييم

تبدأ عملية إعادة التقييم بالضرورة بالنفط، فعلى الرغم من أن اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط انخفض الآن بشكل كبير ومن غير المرجح أن يزداد قريبا، والسعودية اليوم تمتلك 17 % من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم وتوفر 11 % من إنتاج النفط العالمي، لا يزال الشركاء التجاريون الرئيسيون للولايات المتحدة في آسيا يعتمدون بشكل كبير على واردات النفط الخام السعودي لذلك فإن انقطاع تدفق النفط من السعودية سيضر بالاقتصاد العالمي والاستقرار في الشرق الأوسط في المستقبل المنظور، كما تظل السعودية «المنتج المرجح» الوحيد للنفط بالسوق لأنها الدولة الوحيدة التي لديها فائض من مليون إلى مليوني برميل في اليوم، لذلك فهي قادرة على التأثير على سعر النفط بطريقة يمكن أن تساعد أو تضر الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي، ثم مع انتعاش اقتصادات العالم من جائحة كورونا ارتفع الطلب على النفط بشكل غير متوقع، والعديد من المنتجين واجهوا صعوبة في زيادة صادراتهم وأدى إلى ارتفاع أسعار النفط قريبا من 100 دولار للبرميل مما أثار مخاوف تزايد التضخم، وعلى الرغم من الجهود الأمريكية والأوروبية للتحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المستدامة، فإن التحول يتحرك ببطء، مع أن الاستخبارات الأمريكية تتوقع تحقيق النتائج بعد 2030، ومن المرجح أن يؤدي النمو الاقتصادي إلى زيادة الطلب على الوقود الأحفوري على مدى العقدين المقبلين بسبب أن مصادر الطاقة البديلة لن تسد الفجوة في الوقت المناسب، والتصميم الأوروبي لإنهاء الاعتماد على روسيا في النفط والغاز سيزيدان من اعتمادها على مصادر الشرق الأوسط.

في غضون ذلك ، يتراجع الاستثمار العالمي في إنتاج النفط والغاز لتسجيل أدنى مستوياته حيث يتم الضغط على الشركات لتحويل استثماراتها إلى الطاقة النظيفة، هذا ينطبق بشكل خاص على شركات النفط الكبرى التي تقلص إنتاجها النفطي وتنتج الآن 15 % فقط من نفط العالم، وسيتم استبدال إنتاجهم بالنفط الذي تسيطر عليه الدولة وشركات الغاز، في الواقع تستثمر كل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مبالغ كبيرة لزيادة الطاقة الإنتاجية للاستفادة من زيادة الطلب أثناء استمرارها، وأعلنت السعودية عن خطط لاستثمار 50 مليار دولار لزيادة إنتاجها بنحو 700 ألف برميل يوميا وتعتزم قطر مضاعفة إنتاجها من الغاز في السنوات الثلاث المقبلة، وهذا بدوره يجعل الخليج العربي أكثر أهمية وليس أقل أهمية بالنسبة للولايات المتحدة. ويشير الخبيران في السياسة ميغان أوسوليفان وجيسون بوردوف إلى أنهم في وضع أفضل ليكونوا آخر منتجين صامدين، ولا يتوقع أن ينخفض الطلب إلى مستويات أقل بكثير لثلاثة عقود أخرى، وما دامت الصناعات في أوروبا وآسيا تعتمد على نفط الخليج فهناك خطر دائم يتمثل في الجهود الإيرانية لتعطيل إمدادات النفط الخليجية، وباختصار فإن التدفق الحر للنفط والغاز من الخليج بسعر معقول أصبحت أولوية للمصالح الأمريكية.

كما أن قيادة السعودية للعالم الإسلامي وإشراف الملك سلمان على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة تجعل بلده الدولة الإسلامية الرائدة، فما يحدث في السعودية سيكون له تأثير مضاعف في العالمين العربي والإسلامي، وقرار محمد بن سلمان للحد من تطرف الأنشطة في الداخل والخارج لصالح تعزيز الإسلام المعتدل والمتسامح تطور مرحب به وقد يتردد صداه في الدول الإسلامية الأخرى، إذا تعثر هذا الجهد في المركز يمكن للإسلام المتطرف أن يعود زئيرًا ويحدث تأثيرًا مضاعفًا عبر العالم الإسلامي، وهذا التهديد يؤكد أهمية التحديث السعودي الناجح الذي يحتاج إلى فهم أوسع لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، وتستفيد من الاستقرار الاجتماعي والسياسي للمملكة والتقدم الاقتصادي.

وينطبق الشيء نفسه على التحديث الطموح لولي العهد حيث تسعى خطته لرؤية 2030 إلى إحداث تحول كامل في المملكة العربية السعودية وفطم اقتصادها المعتمد على النفط مع نهج أكثر تنوعا للتنمية الاقتصادية وتوسيع القطاع الخاص، وتطوير قطاع سياحي جديد، وبناء مشاريع بنية تحتية ضخمة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة، وخفض البطالة بمقدار النصف من 12 % إلى 7 %، وجهود التحديث هذه يمكن أن تفعل الكثير لتفادي الأزمة الاقتصادية مع انخفاض عائدات النفط بمرور الوقت، وواجه الأمير تلك التحديات من خلال تعبئة القطاع الخاص السعودي وصندوق الاستثمارات لاستثمار 3.2 تريليون دولار على مدى عقد من الزمان.

التوقعات والتطلعات

في المستقبل المنظور، التهديد الرئيسي لاستقرار الشرق الأوسط يأتي من إيران، الدولة ذات الأطماع الإقليمية المهيمنة وتطلعات الأسلحة النووية، سعت إيران منذ ثورتها عام 1979 بشكل منهجي إلى استغلال الانقسامات الطائفية والصراعات المحلية، وضعف المؤسسات الحاكمة في العالم العربي لبناء نفوذها، وتحتاج الولايات المتحدة إلى المساعدة في وضع إطار أمني في هذه الساحة الاستراتيجية بالاعتماد على حلفائها وشركائها الإقليميين لملئها والتوجه إلى أولويات أكثر إلحاحا في آسيا وأوروبا، وتبدو في هذا السياق أهمية المملكة العربية السعودية الاستراتيجية للولايات المتحدة، خاصة أن الحلفاء العرب الآخرين لا يمكن أن يحلوا بسهولة محل ميزان القوى الإقليمي وهو السعودية، يمكن للأردن والإمارات أن تلعبا دورًا مهمًا، لكنهما أصغر من أن يكون لهما تأثير كبير على التوازن العام للقوى، مصر أكبر وأكثر قدرة ولكنها منشغلة بجوارها المباشر، ومؤخرا فقط يبدو أنها على استعداد للعب دور أكثر حزمًا وإن كان لا يزال حذرًا في مواجهة إيران، وإسرائيل هي القوة الإقليمية الرئيسية الأخرى المتحالفة مع الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في ملء الفراغ، لكن القضية الفلسطينية جاءت بينهم، ولم تتردد القيادة السعودية منذ القدم في دعمها للقضية ضد إسرائيل وبشكل خاص في مطالبتها العدل وإقامة الدولة للفلسطينيين، وفضل الملوك السعوديون تشجيع المساعي الأمريكية من الخطوط الجانبية، وكانوا مصممين على أن تكون «آخر من يصنع السلام مع إسرائيل»، ومع ذلك لم يحرز الجانب الفلسطيني تقدما في هذه المسألة.

إذا استمر كل جانب ببساطة في مساره الحالي فإن مستقبل العلاقات الأمريكية والسعودية العلاقات ضبابي، فستواصل المملكة العربية السعودية سياسات التحوط والحفاظ على اتفاق أوبك+ مع روسيا وتعميق علاقاتها التجارية مع الصين، وحتى متابعة تجارة النفط مقابل اليوان، وبمرور الوقت من المرجح أن يشتري السعوديون المزيد من الأسلحة والتكنولوجيا من الصين وروسيا وأقل من الولايات المتحدة، في وقت اشتداد المنافسة الجيوسياسية، انجذاب السعودية إلى التحالف الروسي الصيني سيكون بمثابة فوز لهم ونكسة استراتيجية للولايات المتحدة.

القصور في الخيارات الحالية

مع كون الانفصال غير مرغوب فيه والمصالحة الواقعية غير موثوقة، حان الوقت للنظر في إعادة صياغة مفاهيم أكثر جوهرية للتفاهم الأمريكي السعودي، فإدارة بايدن تحت الضغط للتخلي عن خطاب الرئيس حول وضع القيم في قلب السياسة الخارجية الأمريكية والتوصل إلى تفاهم «واقعي» مع ولي العهد، لتأمين التزام محمد بن سلمان باستئناف الدور التقليدي للسعودية «المنتج المرجّح»، وضخ المزيد من النفط بأسعار معتدلة، وقد يتطلب كذلك جهدًا لإقناع الكونجرس بالموافقة على مبيعات الأسلحة الجديدة وتقديم الدعم الدبلوماسي والعسكري للسعوديين في اليمن فيما يواصل الحوثيون مقاومة الحل السياسي للصراع.

فوائد مثل هذه المصالحة الواقعية بديهية، إذ تعني لبايدن المزيد من النفط في السوق العالمية أي الراحة في ضخ الغاز للأمريكيين، أسعار الطاقة الرخيصة نسبيًا هي الأفضل دائمًا كقضية سياسية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ذلك ستتضاءل رغبة الحكومة السعودية في توسيع علاقاتها مع روسيا والصين على حساب الولايات المتحدة، ولكن ستبقى مسألة الموثوقية الأمريكية مسألة أساسية وتعيد المعضلة الأمنية تأكيد نفسها.

سيكون جوهر هذا الاتفاق الاستراتيجي الجديد هو الاتفاق على مواجهة التهديد من إيران، وبالنسبة للولايات المتحدة تظل إيران المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وجهودها للحصول على الأسلحة النووية ودعمها للقوات التخريبية في جميع أنحاء المنطقة، وطموحاتها في الهيمنة والطائفية تشكل تحديا مستمرا لمصالح الولايات المتحدة في وقت تكون فيه الولايات المتحدة منشغلة بتهديدات أكبر في أماكن أخرى، لذلك تحتاج واشنطن إلى شركاء إقليميين موثوقين قادرين على تحقيق التوازن ومواجهة طهران، ويمكن للسعودية أن تلعب دورًا مهمًا في هذا الصدد.

بالنسبة للسعودية تمثل إيران أيضًا التهديد الرئيسي لمصالحها ولا سيما الدفاع عن وطنها والاستقرار الداخلي لأصدقائها في الجوار، وهم قلقون من أن الولايات المتحدة تفضل استيعاب أطماع إيران الإقليمية بدلاً من مواجهتها، وينظرون إلى خطة العمل الشاملة المشتركة على أنها تمكين سياسات إيران العدوانية في المنطقة، ويرون أن العودة إلى تلك الصفقة ستكون لها نتيجة مماثلة، وفي الواقع مع اقتراب إيران من عتبة الأسلحة النووية فإن السعوديين يركزون على الكيفية التي يمكن أن تتحملها القدرات النووية، وهذا يفسر سبب طرح محمد بن سلمان الفكرة مع مسؤولي إدارة بايدن الذين التقوا به مؤخرا بضمان أمني مماثل لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) ، حيث أي هجوم على المملكة العربية السعودية سيعامل على أنه هجوم على الولايات المتحدة.

إعادة تصور العلاقة الأمريكية السعودية

سيتطلب هذا الاتفاق الجديد من الولايات المتحدة الاعتراف بالأهمية المتزايدة للسعودية بالنسبة لأمريكا في الشرق الأوسط، وستحتاج السعودية إلى الاعتراف بـالمسؤوليات التي تتولاها باعتبارها ركيزة الاستقرار في نظام شرق أوسطي تدعمه الولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس سيحتاج الجانبان إلى التفاوض على حزمة من الخطوات المتبادلة يلتزم فيها كلا الجانبين بالتزامات متوازية، تتطلب المحتويات الدقيقة لهذه الحزمة تفاصيل التفاوض، ولكن يمكن تحديد العناصر الأساسية نظرا لعدم وجود الثقة الآن في العلاقة، ولصعوبة بعض الخطوات سيكون من الضروري اعتماد نهج تدريجي، ووضع اللبنات الأساسية أولاً وبناء هيكل أكثر تفصيلاً، ومع مرور الوقت يظهر كل جانب التزامه وموثوقيته، مع ذلك سيكون من المهم الاتفاق على خارطة طريق منذ البداية.

ستحتاج الولايات المتحدة للتعامل مع فجوة الموثوقية إلى الاستعداد لتقديم ضمانات أمنية للسعودية يمكن أن تأتي بأشكال متنوعة. التزام معاهدة شبيهة بحلف الناتو بأن الهجوم على السعودية كالهجوم على الولايات المتحدة يتطلب ضمانة رسمية يوافق عليها ثلثا أعضاء مجلس الشيوخ، ويمكن للولايات المتحدة إعادة التأكيد على عقيدة كارتر بمنع أي قوة معادية للسيطرة على منطقة الخليج، ويمكن بعد ذلك الاتفاق مع السعودية كما فعلت مع سنغافورة من أجل الدخول في إطار عمل استراتيجي.