في خضم الإنتاج الأدبي ظهر مذهبان متعارضان وكأنهما شرارتان لفتيلة لا نهاية لها، وهما المذهب الكلاسيكي والرومنتيكي -الرومنسي- وعلى الرغم من تناقض هذين المذهبين وتنازع أصحابهما إلا أنهما كانا من أسباب ازدهار الأدب والفلسفة ونمّوهما.

ظهرت الحركة الكلاسيكية في القرن السادس عشر في إيطاليا أولًا ثم في فرنسا، ثم انتقلت إلى عدة بلدان في أوروبا، وامتدت حتى القرن السابع عشر والثامن عشر، ونشأت في إيطاليا نتيجة لكونها مركز البابوية وما كانت تتمتع به إيطاليا من استقرار وأهمية تجارية، وقد ساعد في ظهورها كُتّاب عِظام ممن سلكوا طريق الكاتب الإيطالي (دانتي) صاحب ملحمة الكوميديا الإلهية، وكان أساسها «العقل» أي الكتابة بعقلانية بعيدًا عن العاطفة التي كانت شرًا بالنسبة لأصحاب المذهب الكلاسيكي والسبب لتفضيلهم العقل على العاطفة هو أن العقل ثابت غير متغير، وكان من أشهر أنصار هذا المذهب كل من: أرسطو وديكارت وبوالو، حيث سخّروا أدبهم دفاعًا عن هذا المذهب، وكانت الكلاسيكية تهتم بالمجموع ولا تُلقي بالًا للفرد، متزيّنةً بلباس الأخلاقية، ومرّت الكلاسيكية بمرحلتين أثناء ظهورها وشعبيتها أولًا: مرحلة التنظير والتي شهدت إرساء القواعد الفنية والفكرية، وثانيًا: مرحلة الإبداع، وفي هاتين المرحلتين ظهر عدد من الشعراء والأدباء الذين ألفوا على القواعد الكلاسيكية.

وعلى الرغم من احتضان الأدباء لهذا المذهب وسيطرته على الحركة الأدبية آنذاك إلا أنه كان مذهبًا باردًا خاليًا من عمق الشعور وحسّ العاطفة، كما كان أفلاطون يرفض الشعر والفن لأنه لا يعالج الحقيقة في نظره، وذلك لاستناده على المذهب الكلاسيكي والفن الأخلاقي، والمواطن القويّ -على حدّ قوله- هو الذي يستجيب لنداء العقل لا العاطفة، والكلاسيكيون عامةً ينظرون إلى الأدب على أنه ذو وظيفة تهذيبية خلقية.

ولم تلبث الحركة الكلاسيكية حتى أصابها ضعف وانحلال نتيجةً لتطور المد الإصلاحي الديني الذي سحقَ أركان الفكر الكاثوليكي المسيحي، وشيوع النزعة التحريرية في الفكر السياسي والاجتماعي والذي ظهر عنه المذهب الليبرالي، إضافة إلى التطور الاقتصادي والاجتماعي غير المعهود.

ومن هنا قامت الرومانتيكية -الرومانسية- على أنقاض الكلاسيكية كردّ على هذه الحركة من قِبل أُدباء وفلاسفة كانت لهم آراء مغايرة ونظرة ثاقبة، وانتشرت الرومانتيكية في ذلك الوقت مع سقوط نابليون عام 1815، وبدأت هذه الحركة في إنجلترا أولًا، ثم في ألمانيا، ثم واصلت الانتشار في المدن الأوروبية، وكان ممّن رفعوا راية الرومانتيكية في أول ظهورها كل من: فيكتور هوجو وولامارتين ولوي بلان، حيث شقّوا طريقهم في إحياء هذا المذهب وممارسته والتأليف فيه.

ومن لفظة -الرومانسية- نفهم أن هذه الحركة وهذا المذهب يتعلق بالعاطفة وصدق الشعور ولا شيء أجمل من ذلك، حيث إن كل نصّ قد أثّر فينا وأيقظ فينا شيئًا نائمًا أو حتى جعلنا نبصر أشياء لم نكن لننتبه لها كان مؤلفه يكتب تحت جناح الرومانتيكية، يقول (وورد زورث): «الشعور يضفي أهمية على العمل والموقف، لا أن العمل والموقف يضفيان أهمية على الشعور» ومن هنا نفهم أن الشعور والحسّ العاطفي قد يبعث بعض السحر اللامحسوس في حياتها ولكننا نستطيع أن نراه بقلوبنا ونترجمه بتعبيرنا.

وكان هدف الرومانتيكية الأكبر هو إبراز الفردية والانتصار لها في جميع مكامن الحياة، وأطلقت العنان لأفرادها بحقّ التعبير بعدما أخرستهم الكلاسيكية، فالذاتية أشبه بالمحرّك لهذه الحركة، وفي حديثنا عن هذه الحركة لا بد أن نذكر أهمّ الشخصيات التي ساهمت في انتشارها وهي الأدبية الفرنسية من أصل سويسري (مدام دي ستال) التي كانت أكبر داعية للحركة الرومانتيكية وأشهر أنصارها والتي عاشت جُل حياتها ناشطة في هذا المجال، حتى أنها شيّدت ناديًا أدبيًا كان من أشهر الأندية الأدبية في فرنسا والذي يحمل اسمها (نادي مدام دي ستال)، وانتشرت الرومانتيكية نتيجةً لظهور جماعات ومدارس كانت تدعم هذه الحركة وتؤيد انتشارها مثل: مدرسة الديوان، والرابطة القلمية في المهجر، ومدرسة أبوللّو، وجماعة الثالوث الرومانسي في تونس، وعصبة العشرة في لبنان، غير أن كل مدرسة كان لها فكرها ونظرتها في البحث والتطبيق.

وحول منتصف القرن التاسع عشر الميلادي اندثرت الرومانتيكية في الآداب الأوروبية، وظهر عنها مذاهب أخرى نزلت إلى ميدان الأدب لتصنع فيه ما تصنع، ومع التحولات التي يمر فيها الأدب بين عصر وآخر ما زال محافظًا على بريقه الذي يعمي أعيُن الجهلاء.