عنوان لمقالة قد يرمي القارئ إلى ضفة السيرة الذاتية المكتوبة بجنس سردي عن الشاعر، لكنّ الأمر ليس كذلك. فهناك سيرة شعرية للشاعر يخفيها سحر اللغة وبيانه بصندوق مغلق داخل القصيدة. لإنَّ اللغة، بحسب ظني، هي المفتاح الأوّل لصناديق الشاعر المغلقة. يترك الكثير من رماده بعد احتراق الذات في شعره، وهذا الأخير يكشف لنا لحظة كتابة القصيدة عند العلاق، وهي اللحظة قصير زمنها، طويل عذابها. ففي قصيدة بعنوان ( شعر) نجدها في مختاراته الشعرية بعنوان (تفاحة الضوء) الصادرة عن دار ناشرون وموزعون عام 2021. يقول:

حين فاجأني الحُلمُ

وانكسرت سعفةُ الغيمِ،

طاردني الشعر..

طاردته،

هاربًا من دخان يديه..

والتجأتُ إلى الجنِّ..

أضمرتِ الجنُّ في جسدي النار

أهدت رمادي إليه..

ربما لو يسأل القارئ: ما الذي يأتي إلى الشاعر قبل كتابة القصيدة؟ هل الخيال؟ أم الأفكار الطائرة في سماء العقل وتنتظر شاعرها أن يصطادها؟ إنَّ النصّ السابق يكشف عن لحظة طويلة تهز أرض الشاعر قبل الشعر: (حين فاجأني الحلم) استعمل الشاعر صورة مجازية عن الشرارة للكتابة ووظف لها الفعل (فاجأني) بمعنى أن لحظة الشعر غير مخطط لها بشكل مسبق تأتي بلا موعد، فلماذا وصفها بالحلم؟ أعتقد إن بهذه اللحظات ينسلخ الشاعر عن الواقع ورتابته، هو يعيش فيه، لكن خياله بعالم آخر.

الشعر والشاعر كل منهما يطارد الآخر. ولأنَّ فعلَ المطاردةِ حاضرٌ في النص، فلماذا يهرب الشاعر من شعره؟ ولماذا يطارد شعره في اللحظة ذاتها؟ إن الإجابة تكمن في ختام القصيدة. هل في لجوء الشاعر العلاق إلى الجنِّ كما فعل الجاهلي الذي استعان بشياطن تلهمه الشعر كما كان يعتقد؟ إنَّ استعارة الجن في النص هي استعارة مجازية عن الحالة الوجودية التي يعيشها الشاعر، أو يشعلها في ذاته ليستفاد من رماد الاحتراق: ينثره على جسد القصيدة، فيكون الرماد روح النص. والشاعر يعطي قيمة للرماد بعد عند فقدها في الواقع، لكن بالحلم وما أعنيه عند الشاعر يكون رماد احتراق الذات الحجر الأساس لبناء النص.

وتأتي المرحلة الثانية هي المكاشفة الذاتية في الشعر. فلا سّر بين الشاعر وقصيدته، والعلاق يقوم مكاشفات ذاتية في (فراشاتُ لتبديد الوحشة) ديوانه الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال. إنَّ ما يبدد وحشة الشاعر في قصائده هو الآخر، وهنا تأتي اللغة لتخفيه عن القارئ وكأنَّ الشاعرَ يعلن براءة ذاته من الخراب، ويطهرها بالعذابات. ويمكن أن نقول عن الآخر في قصائده يحملُ ذاتًا مخفية وهذه الأخيرة تتولى مهمة الكشف عن باقي الذوات فيقول في قصيدة (رحلة الشتاء والصيف): رحلتان اثنتان.......

وأنت المعلّق ما بين شمسين:

واحدة تتوهج من شدة البرد

قطعةٌ ثلج تضيء عظامكَ

واحدةٌ تتفحم ملءَ العراء..

زمنٌ عزَّ فيه النبيّون

لا بهجة الاكتشاف ولا رحلة النضج

العتبة النصّية الأولى العنوان والذي يتناص الشاعر فيه من الموروث القديم (رحلة الشتاء والصيف)، وهذه الرحلات عرفت عند قريش في الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، فما الجامع بين الرحلتين والشاعر؟ تمرّ الذات برحلتين في فصول الحياة، وتقسمان إلى: رحلة البحث عن الذات نفسها، ورحلة البحث عن الوجود و(أنت المعلق ما بين شمسين واحدة تتوهج من شدة البرد) نلحظ تقديم الضمير المخاطب (أنت) والذي يوقع القارئ بأن المخاطب المقصود هو الآخر أيّ كانت هويته، لكن الآخر هو الذات المخفية للشاعر ومهمتها المكاشفة في النص: (واحدة تتوهج من شدة البرد) هذه الذات المصلوبة بعذاب الإغتراب، وبرد الروح و: (واحدة تتفحم ملء العراء) الذات المنفية التي تعيش في هامش المكان بعيدة عن جذورها، وهذي الذوات معلقة بين شمسين، والصورة الاستعارية حققت الجمع بين الذاتين (المغتربة والمنفية). والأفعال (تتوهج تتفحم) أخرجت المعنى الدلالي من حقيقته فحلق بسماء الإنزياح، فالتوهج جاء مع البرد وهنا المفارقة التي تدل على تحولات الذات، تتفحم مع المكان العراء هذا الفعل الذي يدل على الانقطاع من الشيء، فالشاعر يعاني من أزمة ذاتية وهي أين هو من كلّ هذه الذوات؟ وهذه الأزمة أعتقد إن الزمان هو المسؤول عنها (زمن عزّ فيه النبيون) فتغيّر الزمان لا يتمّ إلا بمعجزات، وهذه تأتي مع الأنبياء وزمننا بلا نبوة إذن لا تغير لا بهجة لا تجديد!! سيظّلُ راكدًا في العدم وهذا ما أوقع ذات الشاعر بمحنة، فهو باحث عن التغيّر ولا يرى الّا سكون، وسبات، وليلٌ مستمرٌ في الظلام فلا شمس أمل تشرق، ولا أنبياء وربما لا شعراء فيه ـ يقول في قصيدة (الشريف الشجّي):

أمس مرَّ الشريف الشجي

بلا جسد ترفع الأرضُ

جثتها كي يمرّ حزينا بدا

ناقضاً فرط غيظٍ

عباءته..

قلت: يا سيدي

أين ولّى زمان الرضا؟

استندت الذات الشاعرة على شاعرٍ مرّ على جسد القصيدة من دون جسده!! فالمفارقة الافتتاح (الشريف الشجي) والختام (أين ولى زمان الرضا)، فانقسم الشريف الرضي وكان نصفه هو متن النص، والشاعر العلاق في هذا النصف الذي حضر باحثًا عن الزمن ويكمن هذا الأخير في الماضي، (أين ولى زمن الرضا) ليس سؤالًا استفاهميًا عن الرضي، بل سؤال الزمن الذي يمحو كلّ من تعلق أقدامه به، الزمان قاتل للجسد، والمكان هو الجثة التي تدلل على إن الإنسان كان يرقد عليه، لذا فالشاعر بمشهده المرئي لصورة الشريف بلا جسد يستفز الإنسان؛ ليقول له أينك؟ الذات تكشف عن ضعفها وتشتتها حتى صارت تتمشى مع القصيدة فيقول في (جبال الأسى):

كيف أمكنكَ أن تنهضَ

من رميم تلك اللغات المتهالكة؟

كيف أتيح لك ما لا يتاح لسواك

من صناعة الكلام:

أعنى هذا الجمال الوعر

أعني قصيدتك التي شحنتها حدّ الاختناق

بكوارثنا التي تجدّد كل يوم

ماذا فعلت بنا أيها الشيخُ المتمرّدُ؟

لقد رحلت قبل أن ترى ممالك الخراب

وبعد أن تركتَ، لدى كلّ واحد منا،

جبلاً من الأسى

يتمشى معه

ابتكر الشاعرُ ذاتاً ناطقة عنه متخفّيًا بها، ويوهم القارئ أنه يخاطب الآخر لكن الآخر يفضح الشاعر، ويكشف لعبة المناورة التي ووظّف لها لغةً خاصةً؛ لتسعفه بلعبة التخفي، ولما يصّر على الاختباء خلف الآخر؟ ( كيف أتيح لك ما لا يتاح لسواك من صناعة الكلام ) ومن هم صّناع الكلام؟ في ثقافتنا العربية إنَّ الشعراءَ صاغة الكلام، وهذه الجملة تكشف أن الشاعر يخاطب الآخر وهو نفسه، وفي داخله يجلس الناقد (أعني قصيدتك التي شحنتها حدّ الاختناق بكوارثنا التي تجدّد كل يوم) القصيدة تعيش مع الجمال ولا مجال للخراب أن يشترك معها، وعندما دخل الخراب، والدمار إليها انتبه الشاعر إلى إنها اختنقت؛ فوجّه النقد لذاته عن طريق ضمير المخاطب وهو الآخر. وهذه الجملة الشعرية مكتوبة بوعي معرفي وكأنه يمارس عملية النقد داخل النص الشعري. الشاعر العلاق في ديوانه نحت القصيدة بالتساؤلات التي كانت هي المسوؤلة عن صناعة الصورة، والضغط على اللغة ممّا جعلها لا تتحمل أي زيادات أو حشو. كما أن الشاعر كاشف ذواته بخفاء.

* ناقدة عراقية