لقد انفردت شخصية عم صديق حلواني المنادي بالشهرة المستفيضة في طول مدينة جدة وعرضها طيلة نصف قرن من الزمان.. بل وأكثر من ذلك بكم سنة وبضعة شهور.. فلا يمكن.. تعرف أيش يعني لا يمكن؟.. لا يمكن أن يوجد آنذاك أحد.. أي أحد صغيرًا كان أم كبيرًا.. أم بين.. بين.. من سكان جدة وملحقاتها من الضواحي والقرى يجهل اسم عم صديق المنادي كما كان يسميه الصبيان الذين كانوا منه وله بمثابة الجوقة.. يكونون أعضاء الفرقة الموسيقية يحيطون ويحفون به.. وهو ينادي على ما ينادى عليه.. كما تحف أعضاء الفرقة بالمطرب الشهير.. طائفًا بالأسواق.. دائرًا بالشوارع.. لافًا بالأزقة.. ملعلعًا.. مترنمًا.. في تنغيم وتطريب بصوت يخترق الأذان.. ويتعدى الجدران.. ليغزو كل مغلق.. أو مبسط.. أو دكان.. ليصل به.. أي بصوته.. إلى حيث تريد طبقته العالية جدًا والمشابهة من حيث المقابلة المعمارية بناطحات السحاب في قلب.. لا صوت.. نيويورك.

أما اسمه بالكامل.. كما خطته يدا كاتب قهوة الجماله العمومي.. وحسب منطوق لسانه.. فهو صديق صادق حلواني.. وقد ولد لأبوين فقيرين بالنسبة للتقييم المالي المادي.. ذلك أن أباه كان.. والا بلاشي!! وإن أمه.. وإلا أقول لك.. برضو.. بلاشى!! كما أنه كما تذكر الداية التي تلقته بيديها قد جاء إلى هذه الدنيا الفانية صارخًا صراخًا لم تعهد مثله في مواليد الحارة.. بل ومواليد جدة شملًا كملًا كما تقول.. ولهذا فقد تنبأت إحدى العجائز القرم الحاضرات وقت النفاس بقولها: الولد هادا راح يطلع منادي! فسرت بذلك جميع الحاضرات من النساء.. وضحكت أمه رغم آلام الولادة لسرورها من هذه البشارة!!

ويقول عم صديق عن نفسه وحين تقدمت به السن.. واحتاج إلى ترديد الذكريات القديمة.. شأنه في ذلك شأن كل من تتقدم بهم الأسنان والسنون.. إنه نشأ هاويًا.. بل عاشقًا للصراخ.. ورفع الصوت.. وهي صفة غير جداوية على العموم مما آثار ((حفيظة نفوس)) الكثيرين عليه.. ومما دعاه إلى التفكير في استغلال طبقاته الصوتية العالية في غير ما يؤذي الناس.. فاتجه إلى الغناء.. ولكن الجسيسة المحترفين ضيقوا عليه الخناق والمجال.. فانصرف رغمًا إلى ممارسة الأذان مجانًا.. ثم انقطع عنه مرغمًا كذلك.. حسب أمر القائم نزولاً على شكوى الأهالي!!

وهكذا انتهى أمر العم صديق بالجلوس في بيته بالليل.. مفكرًا فيما ينبغي عليه أن يعمله.. مصرمحا بالأزقة.. فالشوارع.. فالمقاهي بالنهار.. لعل وعسى.. وفجأة.. ولأمر يريده العزيز القدير.. ولا راد لأمره.. فقد صادف أن اختلف عم صديق مع القهوجي المجاورة قهوته لمسجد الباشا على الحساب.. وتصايحا.. وحد العم صديق الطبقة.. وتصادف أيضًا أن مر في تلك اللحظة التاريخية المناسبة الخواجة هنكي وكيل البواخر الأجنبية.. ومؤسس بيت جلاتلي هنكي وشركاه.. وهو البيت الإنجليزي التجاري العتيق.. والمعروف في جدة كلها والذي كان مقره بجوار الكنداسة القديمة.. وعلى مقربة من مسجد الباشا.. وحيث القهوة التي وقع فيها الخصام وسمع الخواجه صوت عم صديق.. ودون أن يعرف معاني الكلمات والمعاني المنطلقة من فم العم صديق انطلاق القنابل والقلل.. فأعجب كثيرًا بهذه الموهبة الصوتية.. وهز رأسه بل وخلع قبعته ـ أي برنيطته ـ من فوقها.. وتمتم في انجليزية سليمة: فري.. فري قود!!

هنالك.. ولحسن الحظ.. لاحظه عم صديق.. فاقترب منه.. ووشوشه في أذنه بالعربي.. فلم يكن من الخواجه هنكي إلا أن يزيح فم عم صديق عن أذنه..

هذا.. وتقول الرواية الثابتة شعبيًا أن الخواجة هنكي بعد أن سمع صوت العم صديق ـ المشهور بالمنادي ـ لم يتمالك نفسه من الإعجاب. فقام حالًا بتسديد حساب القهوجي.. بل ومد يده إلى جيبه ثانية.. وأراد أن يغرز للعم صديق ما جادت به نفسه.. ولكن العم صديق صاح في وجهه: افا.. أنا المسلم.. أخذ منك أنت يخواجه.. ينصراني صدقة؟ لا.. لا.. الجبا معليش عشنو فن!!.. بس الصدقة.. لا.. لا.. هادي ما يقبلها المسلم إلا من مسلم زيو!!

هنالك.. كما يقول الفتيني صاحب القهوة.. رد الخواجة هنكي فلوسه إلى جيبه.. ومد يده مصافحًا العم صديق معجبًا بهذه الروح العالية.. وودع الجميع ذاهبًا إلى مقر مكتبه حيث بادر حالاً إلى كتابة تقرير سري لمركز شركة أوبيت جلاتلي هنكي وشركاه الرئيسي في لندن يقول في بعض فقراته ((حيث إن من أكبر أعمال مؤسستنا توكيلات البواخر.. ونظراً لأننا تعبنا كثيراً في إعلان قدومها وسفرها بالطريقة المرضية.. وبناء على إنني سمعت اليوم بالمصادفة صوتًا عربيًا فريدًا في نوعه لشخص يسمى ((الام سديق هالاواني)).. فإنني أرشح المذكور فهادا هو اللي يسلح للإعلان.. وقبل أن أنسى أذكر لكم أن الهالاواني هذا زكاه كل من المساتر.. أثمان.. ناشار.. اشماوي.. ((يقصد المرحومين المشائخ عثمان باعلمثان.. محمد نشار.. أحمد عشماوي)) وبموجب هذا التقرير السري جاءت الموافقة بالتلجرام.. وعن طريق وكالة روتر على تعيين عم صديق حلواني مناديًا على بواخر جلاتلي هنكي وشركاه.. ولعلها أول موافقة وتعيين تأتي بالتلجرام في تاريخ جدة القديم..

وهكذا.. ابتدأ صوت عم صديق يعلو رسميًا وشعبيًا في سماء جدة.. وعلى طريقة الخير لمن يقدف.. يقدف.. فقد وصل الخبر بطريقة سرية أيضًا إلى بيت الحاج زينل رضا وشركاه.. ثم بنفس الطريقة وصل لبيت فاضل عرب وشركاه.. فتعاقد كل من البيتين التجاريين مع العم سديق الذي أصبح لا ينادي إلا ((المنادى)).. فابتدأ بمنظوماته الإعلانية التي يدين لها الانتعاش ودار على جميع الأسواق.. والشوارع والأزقة والبرحات.

ولما كان العم سديق فنانًا صوتيًا.. فقد استغل أولاً طبقات صوته العالية في هذا المضمار.. وثانيًا قام في سكوت تام ترتيب وتنسيق كل طبقة في أرشيفها الخاص بها.. وخصص كلا منها لما يليق به.. فجعل.. مثلاً.. للولد الضائع طبقة خاصة به.. كما أفرد لقدوم أو سفر الباخرة رضواني طبقة تجارية مميزة بلحن مميز.. كما اختص الإعلام الرسمي بطبقة وقورة مهذبة.. لا تتبدل ولا تتغير!!

ولم تكد تمضي بضعة أسابيع على قيام عم سديق الشهير ((بالمنادي)) بالإعلان عن البواخر.. حتى تنبه أهالي جدة إلى فوائد ومزايا الإعلام الشعبي.. وميزات الإعلان.. فأقبلوا.. أو هرعوا كما يقول حبيبنا وأخونا غير المذكور.. إلى بيت العم سديق.. لتسجيل إعلانات لهم.. ابتداء من الولد الضايع.. إلى تعيين مواعيد المناسبات المهمة.. مثل الصرافة.. والزواج.. والطهور!!

ولقد رأت الجهة المعنية ضرورة تركيز هذا الجهاز الإعلامي البشري، فجددت عقدها معه لإذاعة وبث الأوامر والممنوعات وما يلزم.. فكان محل الثقة والأمانة.. وحسن الأداء.. ابتداء من دخول أو خروج رمضان.. إلى صلوات العيد.. والاستغاثة.. و.. و.. من كل ما لا بد من الإعلان الرسمي عنه.. فكان الناطق الرسمي والشعبي معًا.. دون مزاحم.

وبذلك كله.. لا بعضه.. دخلت شخصية عم سديق حلواني الشهير ((بالمنادي)) التاريخ الشعبي من جميع أبواب جدة الأربعة.

1974*

* شاعر وصحافي سعودي «1911- 1979»