وتحت لافتات الثورية والتقدمية والمستقبلية، يستباح كل شيء. وينسف كل شيء.. وتدمر الثقة بكل شيء. حتى ليشعر العربي أنه لقيط ثقافيًا، وأن ماضيه ليس أكثر من مجموعة من الانقاض والخرائب.
إن العدوان على (الذات العربية) أصبـح شيئًا لافتًا.. وميليشيات القتل الثقافية تعمل بتنسيق وتخطيط متكاملين للإجهاز على آخر الخلايا الحية في الجسد العربي.. وعلى آخر الجسور التي تربط العربي بنفسه، وبأرضه، وبالعالم.
هل الجريمة إذن جريمة سياسية؟
- إنني لا أستبعد هذا الاحتمال. فالعدوان السياسي على تراث أمة، يأتي عادة مختبئًا في رداء العدوان الثقـافي.. وأول ما يفعله الاستعمار عندما يدخل على أمة هو خلخلة ذات هذه الأمة، وكسر إيمانها بنفسها، وزلزلة يقينها بتاريخها ومنجزاتها الحضارية في كل مكان في العالم حدث الشيء ذاته.
ففي أفريقيا كما في آسيا والبلاد العربية، كان المستعمر يجرب غسل دماغنا، وتعطيل ذاكرتنا، بحجة أن ماضينا كله هو مقبرة.. أو مزبلة. ويبدو أن بعضنا قد استسلم لعملية غسل الدماغ الثقافية، وتأثرت أعصابه (بالجلسات الكهربائية) الطويلة، فلم يعد يرى في التاريخ العربي على اختلاف عصـوره، شجرة.. أو نهرًا.. أو حبـة حنطة.. إنني لست من عشـاق الماضي، ولا من هواة جمـع السجـاد (الانتيكا).. والقصائد (الانتيكا).. فأنا مع الحياة كجدول دائم الدفق والفيضان الإنسان في تجاوزه المستمر لنفسه، التحولات التي تحدث في داخل عقل الإنسان، وفي داخل قلبه إنني أرفع قبعتي لكل جديد يغني حياتي، ويضيف إليها تفاصيل جديدة.. وأبعادًا جديدة..
ولا يمكنني أن أحترم جديدًا.. يسرق مني آخر مدخراتي، ويهدم سقف البيت الذي أسكنه، دون أن يعطيني سقفًا ثقافيًا بديلًا أجلس تحته وأخيرًا.. أنا أرفض تجريدي من ثيابي.. بحجة أن آخر تقليعات الشعر الحديث تفرض على القصيدة أن تكون (على اللحم).. وعلى الشاعر أن يكون بلا لحم.. وبلا عظم.
الميليشيات الثقافية تفرض على القصيدة العربية أن تخلع ملابسها، بقوة السلاح...
فمتى تتحرك قوات الردع الثقافية.. متى؟
1977*
* شاعر وكاتب سوري«1923 - 1998»