قد نكون نحن -السعوديين- أكثر الدول التي اعتمدت على النفط طوال تاريخها في ميزانياتها ورفاه شعبها. وقد نكون نجحنا إلى حد كبير في خلق اقتصادات أكثر نمواً وازدهاراً في المنطقة والعالم، ولكن الحقيقي أننا أيضاً كنّا أوفياء لأصدقائنا الغربيين في مساعدتهم لتجاوز أزمات اقتصادية كبيرة من خلال ضخ الملايين من براميل النفط، ساعدت على أن يكون العقد الماضي من أكثر العقود ازدهاراً ونماءً في أوروبا وأمريكا. وهو ما دفع بدول الاتحاد الأوروبي إلى التركيز على أولوية حماية المناخ وإطلاق اتفاقية باريس في العام 2015 والتي كانت السعودية ودول الخليج جزءًا رئيسياً منها.

زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان فرنسا الأسبوع الماضي، وتحدّث بما يمثّل رأي السعوديين والعرب في موضوع التغير المناخي، وهو الرأي الذي يسانده العلم والمنطق بأن تركز دول العالم على إدارة الانبعاثات وليس المصادر في مجال الطاقة.

لنكن أكثر منطقية وبعيداً عن العاطفة، التي أشارككم فيها في ضرورة حماية كوكب الأرض من مشكلات التغير المناخي والاحتباس الحراري، لكن المنطق يفرض أن علوم البيئة تؤكد أن التخوف من زيادة درجة حرارة كوكب الأرض درجتين مئويتين سيحتاج إلى مضاعفة عدد كمية الانبعاثات الكربونية حالياً في العالم والتي تبلغ 50 قيقا طن مكعب من الغاز تساهم في 60 % منها كل من الولايات المتحدة والصين، ويساهم الاتحاد الأوروبي بأكثر من 20 % منها، فيما تبلغ مساهمة السعودية أقل من 1 % مقابل إنتاجها للطاقة الذي يمثل 12 % من إنتاج الطاقة التقليدية.

إذاً المشكلة ليست في الطاقة التقليدية، بل هي مرتبطة بالنشاط البشري الإنساني، وهو ما شاهدناه خلال فترة جائحة كورونا، حيث انخفضت الانبعاثات بمقدار 5 % ومن ثم عادت في العام الماضي 2021 إلى مستويات ما قبل الجائحة، ولا تزال عند نفس المستوى الأعلى المسجل في العام 2019.

علمياً يحتاج العالم إلى زيادة عدد سكانه إلى 15 مليار نسمة ليبدأ بانبعاثات قدرها 100 قيقا طن مكعب، قد تزيد من حرارة كوكب الأرض درجتين مئويتين. وهذا بلا شك أمر بالغ الصعوبة، حيث تحتاج البشرية إلى قرنين من الزمن للوصول لهذا الرقم في ظل هذه الظروف.

لقد عمل السعوديون منذ اتفاقية باريس في 2015 وبعد إطلاق الرؤية الطموحة 2030 على خفض الانبعاثات وإدارة الكربون، من خلال مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، ومبادرة السوق الكربوني الذي سيطلق قريباً، وكذلك مشروع الشرق الأوسط الأخضر والسعودية الخضراء، الذي سيكون بلا شك جزءًا مهماً من اجتماعات كوب 27 هذا العام في مصر.

وعلى عكس السعوديين، كان الأوروبيون يضغطون لتجريم مصادر الطاقة عوضاً عن تقديم الحلول العملية وكأنهم يستخدمون قضية المناخ من أجل تجريد الدول النفطية من مصدر اقتصادي أكثر موثوقية هام من أجل مصلحة أوروبا، ولم تقدم أوروبا حينذاك سوى أبحاث علمية منتقاة ومنحازة لاستصدار التزامات دولية من أجل الاستثمار في مجالات الطاقة غير التقليدية غير الموثوقة، ما جعلها تعتمد مع الوقت على الغاز الروسي عبر خط نوردستريم

-1 والبدء في تنفيذ نوردستريم

-2. ومن ثم وجدت نفسها العام الماضي تحاول تصنيف الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة الخضراء والنظيفة، وكأنه لا يحتوي على تلك الذرات الكربونية التي يحتويها النفط في تناقض أدبي وعلمي صارخ.

لقد وقعت أوروبا في الفخ الذي كانت تنصبه للعالم النامي بعد الصراع الروسي الأوكراني. اضطرت روسيا للضغط بسلاح الغاز بعد العقوبات الأوروبية ما قلّص الخيارات أمام أوروبا الآن فتحوّلت لإحراق الفحم الحجري أكبر المصادر المسؤولة عن انبعاثات غاز الكربون بنسبة 40 % من الانبعاثات الحالية في العالم.

لقد عادت أوروبا لتشغيل مفاعلاتها النووية وأفران حرق الفحم بوتيرة متزايدة لمواجهة موجات الحر واستعداداً لموسم شتاء سيكون قارساً حتماً دون وسائل التدفئة ما لم تحلّ أوروبا قضاياها مع روسيا دبلوماسياً.

حالياً تقوم بريطانيا بفتح مكامن غاز قديمة وفارغة لإعادة تعبئتها بالغاز الطبيعي المستورد من أمريكا استعداداً لموسم الشتاء القادم. فهل يا ترى سيتحمّل المواطن الأوروبي الكلفة العالية جداً لأسعار الكهرباء والطاقة؟ وهل سيتحمّل أيضاً ارتفاع أسعار المنتجات السلعية نتيجة ارتفاع كلفة الشحن والنقل؟ وهل سيتحمّل مشكلة التضخّم التي لا تلوح لها بوادر انفراج؟

في ظل هذه الإرهاصات تجتمع أوبك هذا الأسبوع ولا يوجد لديها أي دافع لزيادة الإنتاج، ما يعني أن أوبك قد تمدد اتفاقيتها مع روسيا لضبط أسواق الطاقة في ظل توتّر في الشرق والغرب، وجدري قرود ينذر بحالة عدم يقين قد يطول مداها إلى نهاية الربع الأول من 2023.

وبالفعل، كان السعوديون محقّين عندما اقترحوا مفهوم خليط الطاقة والتركيز على الاستثمار في تقنيات التقاط الكربون بدلاً من تجريم الكربون.