في خضم تدفق أنهر الثقافة المتحورة، والمناخ المضطرب للسياسة العالمية، والتحيز الإعلامي بأجنداته المتقلبة، وسيل المعلومات الخاطئة التي تكاد تقضي على السلام والأخوة بين البشر، والرياح العاصفة للنظريات الحديثة، والثوران البركاني للشاشات والتكنولوجيا الذي أحرق أسوار الأمان والطمأنينة التي كانت يومًا بين أيدينا وسرقت في غفلة منا، يبرز سؤال ملح يقلقني كلما مررت بالعالم الافتراضي فأرى أننا لم نضيع فقط لغتنا، بل أضعنا كنوزًا كنا نفتخر بها ونتداولها بكل حب ووفاء: أين أضعنا كتب الأدب؟ قد تسأل ما دخل كل ما سبق بالأدب؟!

هل أبحرت في عالم مجهول؟ هل جربت ضجيج الصمت؟ هل أضعت ذاتك بين أوراق منسية وأسطر خفية؟ هل شعرت بالحنين لمشاعر فارقتك على أروقة الحياة؟ هل تحدثت إلى شخصيات وهمية واكتشفت بالنهاية أن من تحدثه ليس سوى أنت؟

هذا ما تفعله وريقات تقلبها بين أصابعك وكأنك تقلب حياتك، فتمر عليها بكل رفق وأنت خائف من أن تهرب منك العبارات قبل أن تحملك معها إلى غِيام السماء لتضيع معها لسويعات... لدقائق... للحظات؟ لا فرق هنا فأنت لم تعد تعيش بين عقارب الساعات.. أنت سحابة تسير كيفما تشاء لها الرياح تتمايل بطربٍ على نغمات نبض قلبك.


عندما تنتقي ذاك الكتاب أنت تحدث المؤلف وتقول له: «أيها الكاتب... أيها الأديب... خذني في رحلة لأرى العالم بعينك... ساعدني على أن أعجن بالمحبة القسوة والتجمد اللتان تسللتا إلى وجداني وأبعدتاني عن المروءة بحيث لم أعد قادرًا على احتواء غير ذاتي؛ أريد أن أعبر عنصريتي... جاهليتي... نرجسيتي... كبريائي وعنجهيتي... أريد أن أعود إلى إنسانيتي»!

يا زائر عالم الأدب والخيال قد سُمح لروحك بالسفر، اقترب من شجرة العبارات.. هيّا أقترب ولا تخف... هل تسمع نداء حفيف أوراقها؟ أصغ وأذن لها أن تدلك إلى وريقات صفراء تصارع حتمية السقوط، أو تلك التي تُقرَض أطرافها وهي خضراء... صمتًا يصرخ صمتًا... لكنه يصلك! كيف؟ نعم قد لا تسمع، ولكنك ستشعر ويغوص قلبك من بوح بلا أمل... مع عبارات سطرت على نسيم الهواء، تبعثرت وحاصرتك بلا مقدمات!

فتعالوا... تعالوا يا أبناء يعرب نعود لكنوز أضعناها... لقد أدرنا قلوبنا إلى عالم تنافسي همجي لا يفقه نبض الحياة ويتجاهل الإنسانية فقست وتحجرت... نعم لقد أحكمنا على القلوب أقفالها، وفصلنا أنفسنا عن أسرار الوجود وعظمة خالقه، عن جمال الطبيعة وروعتها، ابتعدنا عن الآخرين وانتمائنا إليهم! ابتعدنا عن لغة القرآن الجميلة التي تزكي الأنفس وتحرك المشاعر، ابتعدنا عما يثري العقل ويغذي الفكر وينمي منسوب الكلمات! ابتعدنا عما يساعدنا على التعرف على ملكاتنا الإبداعية والأخلاقية... على ضميرنا، والأهم من ذلك عن الروح التي تسكننا!

الأدب ينادينا فهل نصغِ؟! ينادينا لنخرج من الزمن الحالي إلى عصور وأماكن أخرى، ينتظرنا حتى تبحر بنا سفنه وتمضي بنا فنلتقي بشخصيات نجهلها، وإن كانت من الخيال، فكم حرك الخيال أبناء الواقع للتحرك والتغيير... فالأدب يعمل كمرآة للطبيعة البشرية، ويكشف لنا عن أعماقها الداخلية وتعقيداتها، ومجموعة فضائلها ورذائلها، وبهذا يساعدنا على أن نرى الإنسان في أوج مجده وعمق حماقته عند المواقف المفجعة أو المصيرية؛ ويظهر ذلك جليًا مع كل فكرة أو فعل أو إحساس أو حتى توجه نحو الإيمان.

إن الأدب يسمح لنا بالتفاعل فنحزن أو نغضب أو نخاف أو حتى نضحك، والأهم من كل ذلك أنه يجعلنا ننظر إلى دواخلنا فنرى؟! يقال قبل أن تتعرف على الآخر «اعرف ذاتك» وقراءة الأدب هي الوسيلة الأفضل إن لم تكن الأضمن لفعل ذلك، فترى ذاتك كيف تتفاعل؛ ما يؤثر بك، وكيف أن بعض أفكارك ليست صحيحة، المهم أننا نعيش مع الشخصيات وهي تتجاوب مع الأحداث أو ترفضها، ونتعلم معها ومنها، فالأدب ليس سوى محرك للخوالج، وبالتالي محفز للتفكير مستخدمًا سفينة العبارات لتعبر بنا إلى أماكن لم نزرها أو أوقات لم نعشها أو زمن آت قد نسهم في بناءه أو هدمه!

أعجبني وصفًا في نص أدبي يرسم مشهدًا من الطبيعية: «... أينما أدرت عيناك يمكن أن تلمح مثال التجلي على قدرة الخالق، لا يتعين عليك إحضار أي شيء إلى المشهد، باستثناء القليل من الرغبة في الرؤية... فقط، لمن لديه الشجاعة للرؤية»... هنا نرى كيف أن الأدب يقدم لنا الرؤية والشجاعة؛ متى ما كان لدينا الاستعداد على الغوص في النص لنرى ليس فقط الجمال والروعة، بل أيضًا يحركنا لنسأل: ماذا لو؟ ماذا لو فعلت هذا؟ ماذا لو كان العالم يبدو هكذا؟ إنه يضع الشخصيات في وقت ومكان معين، ويضفي عليها صفات معينة ويسمح لهم بالتحرك في فضاء مركب قد يكون حديث أو متكرر، كما يظهر لنا ما يمكن أن يحدث مثلًا إذا تزوجنا من الشخص الخطأ، أو تجاهلنا قيمنا، أو سرنا خلف غرائزنا، أو تعرضنا لكارثة، بمعنى آخر أنه أيضَا يدفعنا إلى أن نتساءل: «هل قمت باتخاذ القرارات السليمة»؟

بالنهاية إن الأدب كما يصدمنا يوعّينا، وكما يرهبنا يحذرنا، وكما يؤلمنا يمنحنا الأمل... هذا إن فتحنا عقولنا وعرفنا كيف نقرأ؛ أن نفهم وندرك المغزى وراء الأحداث من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا، فما كتب الأدب إلا بذورًا في انتظار أرض خصبة ومع قليلٌ من ماء الإرادة وهواء الالتزام ستنبت عقولًا مدركة، مرنة وثرية، قادرة على الإبداع في إيجاد الحلول متمكنة من المناورة عند المواجهة والاحتواء عند الحاجة.