طرحَ درويشُ مقولةَ: «أنا خارج الشعر في الأرض المحتلة». ولم يكن هذا الخارجُ معنى مُتداولًا، بل هو استعادة للداخل المفقود، فدرويش ظلَّ يعيشُ بالشعر، ويعيشُ الشعرُ به؛ لهذا كانت الأنظارُ تُوجَّه نحو سيرورة شعرية لم يُلتفت لها، حيث الكل من داخل النسق يتحدثون، ومن ثمَّ غياب النظر إلى التحولات والمآلات الضرورية للشعر، أي كأنَّ المقولة الدرويشية تقول بضرورة 1. المحايثة بحركة أفقية مع القول الشعري 2. الانفتاح على فضاءات التجريب الذي يمتح من البئر اللساني بصفته لا متناهٍ.

لهذا طرح درويشُ أول تجربة تختبر هذه المقولة، وهي قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا) وألقاها على المتلقين في محفلٍ خارج فلسطين في مطلع السبعينات الميلادية، ثم قال: «...تجاوب الجمهور مع أكثر قصائدي حداثة وتعقيدا؛ (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا) هذا يعني أنه ليس صحيحا أنَّ القارئ العربي عاجز عن مواكبة تطور الشعر الحديث...» والأهم في قوله ما أنهى به حديثه وهو: «شرط ألا تكون تجربة هذا الشعر مستمدة من الذهن فحسب» فهذه الجملة الأخيرة، توضح الشرطين اللذين ذكرتهما آنفا.

وهذه المقولة ترفع الإشكال وتنزله في الآن نفسه، ترفعه من التوجه نحو القارئ العربي فحسب، إلى الذات الناظرة للشعر، بما فيها الذات الشاعرة. وأمّا إنزاله فتنزله من التعالي والانعزال القولي المستمدين من الذهن فحسب، إلى أن يكون محايثا ومنفتحا، أي سنقول: إنَّ الشعر هو تحولاتنا اليومية، والتخلص من كل تجربة بتجربة مماثلة، ومن ثم يكون للشعر مكانه الدائم في السيرورة التاريخية. والتخلص بالتجربة الشعرية من التجربة الشعرية، يكون كالتخلص بالمعنى من المعنى كما يقول رولان بارت.

إنَّ في أمنية الفيلسوف رورتي في آخر عمره، كشفًا لبعضِ ما عليه الحوارية، إذ قال رورتي: «أتمنى لو أنني أمضيتُ المزيد من أيام حياتي مع الشعر، لو أنني استطعت تذكر واستخلاص المزيد من حبّات الكستناء القديمة وتلاوتها بعفوية لعشت حياة أكثر امتلاءً». أي أنَّ الحوارية ستكشف عن معنى كون الشعر منبعا يبتكر اللغة، وليس أسلوبا استخدم اللغةَ بانزياح! وإذا كان منبعا فإننا نحتاج إلى شعرٍ يوازي أن يكون نموذجا تأمليا لما هو البديل، وليس ثمة إلا هذه الحوارية، بصفتها شعرا وليس منطوق شاعر. ومن خلالها نتأمل الحياة كنصٍ شعري.

فحين نقيس المسافة بين السبعينيات الميلادية؛ حيث كُتِبَ نصُ (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا)، وبين نصّ (لون أصفر) مثلا، المكتوبِ بين صيفيْ 2006، و2007م، لن نجد التقدم بمفهومه الصناعيِّ الفلسفي الواقعي، بل بما ابتكرته الشاعريةُ التي تفتح فضاءات الحياة اليومية، وتبتكر لغتَها التي تُفتّق لنا مجالات، حتى في الواقع الاجتماعي والسياسي، لم نكن نعيها، لانغماسنا في ما تبتكره الأدوات المادية التي صنعناها ونسينا أننا صنعناها، أو بما تبتكره أدوات العقل الإسنادي، التي ألغت المجاز، ونصَّبت تماثيل الحقيقة، أمام الحياة اليومية ومستقبلها، أو بما يبتكره تاريخ العقل الكلي!. تَحوّل التاريخ في هذه المسافة إلى مجاز، والمجاز تحول إلى أن يكونَ غواية، وإغراء، وكأنه يُفكّر في المستحيل وليس الممكن، إذ ما الفائدة بالتفكير بالممكن، طالما أنه ممكن؟ أو لنقل: يُحوّل المستحيل إلى ممكن، ثم يتركه يسبح في فضاء التداول، ويبحث عن مستحيل آخر.

حين استعادَ درويشُ، سرحانَ من غياهب التاريخ؛ ليصنعه بطلًا من مجاز، قال: «وماذا حدث/ أنتَ لا تعرف اليوم. لا لون. لا صوت. لا طعم/ لا شكل.. يولد سرحان، يكبر سرحان/... يرسم قاتله ويمزق صورته» فحين يطرح سؤال اللون، والصوت، والشكل...إلخ، فسيحضر الأصفر، بصفته لونًا للشمس، تلك التي سيُحال لها كُلّ نور، بحكم ما قِيل: «إن النور الذي على حائط الغرفة، منعكس من المرآة، ونور المرآة منعكس من القمر، ونور القمر، منعكس من الشمس، فليس ثمة -إذن- إلا الشمس يُشار إليها» وسنكون أمام مكرٍ مجازي؛ فما لون الشمس؟ هل هو الأبيض أم الأصفر؟ وما حقيقة كلٍّ منهما خارج الوعي؟ وهل ثمة ما هو خارج؟ هنا نتذكر المقولةَ التي في أول المقالةِ: (أنا خارج الشعر...)، هنا يتحرك المجاز ويمكر، فنرى أنَّ بين الأصفر والشمس لعبة مجازية، تتحول فيها الشمس إلى أن تنقسم إلى جزئين: محتل، وغير محتل، المحتل منطقة التاريخ الذكوري، أما غير المُحتل فمنطقة «سيدة لا تشغلها الحرب عن قراءة ما تبقى لنا من طبيعة متقشفة»، سيدةٍ تطرز «الوقت بإبرة وخيط أصفر مقطوع من الشمس غير المحتلة» لهذا فاللعبة المجازية هي التي تُحيلنا على سؤالِ الصوت، كما جاء في قول درويش: «الأصفر هو لون الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة السادسة» فيكون الأصفر هو لون صوت سرحان، ولن تسمعه إلا الحاسة السادسة. أما سؤال الشكل فهي العودة إلى غربة الحقيقة داخل تاريخ المجاز وجدليته، من خلال قول: «أزهار صفراء تُوسِّع ضوء الغرفة»، أي أننا سنستعين بشيءٍ مادي يُميز الأصفر، لنُمسكَ بالمعنى، فتكون المفارقة حين تتغرب الحقيقة بأن يكون فعلها مجازيًا.

وأخيرًا: أُشير للحظةٍ كانَ درويشُ فيها خارجَ المجاز، ورحلته البديعة هذه، انتصفت اللحظة بين نص سرحان، ونص لون أصفر، كان يَجالس إيفانا مرشليان، في منزله الباريسي، عام 1991م، حين قال: «لو كنتُ ناقدًا لبحثتُ أكثر في أسرار النص». درويش وهو يخاطب إيفانا يقاوم المجاز، لأنه ليس بناقد، بل شاعر، وحين يكون ناقدًا فإنه لن يبحث في أسرار النص إلا بما يحولها ويحوله إلى مجاز.