محافظة العلا ذات الآثار النبطية العجيبة، تعد مزارًا سياحيًا ورافدًا اقتصاديًا مهمًا للاقتصاد السعودي، منظورًا إليه من حقيقة أن دخل السياحة يكاد يكون أحد أهم روافد الاقتصادات المعاصرة. ومن هذا المنطلق، اهتمت السلطات السياحية في المملكة مؤخرًا بهذا المورد الحيوي، فأنشأت المنشآت الضخمة، وأنفقت، ولا تزال، أموالا طائلة لجعله بيئة جاذبة للمستثمرين في قطاع السياحة، وللسياح من مختلف دول العالم على حد سواء.

كانت تلك المنطقة الزاخرة بالآثار الممتدة عبر الماضي بعيدة عن اهتمام قطاع السياحة، لسبب ديني بحت. وهكذا، ظلت زيارتها، فضلًا عن الاهتمام بها سياحيًا، محرمة بفتاوى اتخذت من حديث ابن عمر: «مررنا مع رسول الله ﷺ على الحجر، فقال لنا رسول الله ﷺ: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، حذرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

وعلى الرغم من أن الحديث ورد في الصحيحين، إلا أن ثمة إشكالات تعترض إعماله من نواحٍ عدة.

أولا: القول بأن مدينة العلا هي مدائن ثمود، قوم النبي صالح ليس مقطوعًا به. وللشيخ أحمد بن قاسم الغامدي رأي معتبر في هذا الباب، إذ يرى أن «مدائن صالح مختلف في مكانها؛ والتحقيق أن هذا المكان (= العلا)، ليس مدائن صالح».

ثانيًا: على فرض أن مدينة العلا هي بالفعل مدائن صالح، وعلى فرض أن الحديث صحيح الإسناد، (سيأتي لاحقا أن أحد رجال سنده مجروح)، فإنه حديث آحاد يفيد الظن فحسب. ومن ثم، فينبغي أن نُعمِل فيه قاعدة شيخ المحدثين (الخطيب البغدادي، ت سنة 1071) عندما عقد في كتابه (الفقيه والمتفقه،132/1) فصلًا بعنوان (باب القول فيما يرد به خبر الواحد)، قال فيه: «وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رُدَّ بأمور....»، منها أن «يخالف موجبات العقول فيُعلم بطلانه». ولا أخال أحدًا يخالف في مناقضة مضمون الحديث لموجب عقلي ضاغط علينا، وهو أن السعودية، وهي تسعى اليوم إلى التركيز على بدائل البترول ضمن رؤية 2030، يُنتظر منها ألا تهمل معلمًا حضاريًا سياحيًا ضخمًا كآثار مدينة العلا، لمجرد نهي ورد في حديث آحاد ظني الثبوت؛ ذلك أن العائد الاقتصادي الضخم من التفعيل السياحي لهذا المعلم البارز يتجاوز، من ناحية المصالح المرسلة، ما قد يُظن أنه نهي عن زيارته.

ولقد يحسن بنا أن نفعّل (نظريات المصلحة) السلفية، والتي من أبرزها ما عرف بنظرية «المصلحة» عند (نجم الدين الطوفي الحنبلي، ت سنة 1316)، والتي عرّفها بأنها «هي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام». بمعنى أن المعاملات يجب أن تدور مع المصلحة التي هي متغيرة بطبيعتها، ضمن سيرورة زمنية مكانية. وترتكز نظرية الطوفي على الحديث النبوي المشهور «لا ضرر ولا ضرار». والجديد عند الطوفي في تأصيل نظريته أن المصلحة لا تستمد شرعيتها من النص، بل يكفي أنها اعتمدت على النص في اكتساب شرعيتها، بمعنى أنها أصبحت هي نصًا بحد ذاتها، ثم غدت مولدة للأحكام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المصلحة ليست، وفق نظرية الطوفي، معطِّلة للنص، أو ناسِخة له، أو مُقدمَّة عليه، بل هي مخصصِّة له ومبيِّنة.

ثالثا: ينبغي أن نراعي في نصوص المعاملات سياقاتها الزمنية التي نشأت فيها، وسنجد أنها تكيف وضعا كان قائما حينها. وبزواله، أو تبدل أحواله، أو بروز مصلحة أعظم أثرا، لا يكون ثمة مجال لإعمال النص، «فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله».

ولقد طبق الصحابة والتابعون وسلف الأمة مبدأ مراعاة السياق الزمني والمكاني عند إعمال نصوص المعاملات. فلقد أوقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سهم المؤلفة قلوبهم، بمبرر أن الإسلام يومئذ عزيز، ولا يحتاج إلى تأليف قلب أحد، رغم النص على سهمهم في القرآن. كما أوقف توزيع أرض سواد العراق على الفاتحين، إدراكًا منه أن الغاية من النص القرآني الخاص بذلك السهم لم تعد متوفرة وقت فتحه العراق. وبالمثل، منع من تطبيق حد السرقة الوارد في القرآن، عندما رأى أن مقصد النص من تطبيق حد القطع يكمن في الحفاظ على أموال الناس من أن تكون عرضة للسرقة، وهو ما لم يكن متوفرا عام الرمادة، عندما استبد الجوع بالناس.

ونجد صدى لهذا المنهج عند ابن خلدون. فعندما تحدث عن الحديث المشهور: «الأئمة من قريش» رأى أن اشتراط القرشية في الإمام ينبغي فهمه ضمن السياق الاجتماعي الذي قيل فيه؛ وذلك لما لقريش يومئذ من العصبية؛ أما بعد أن تلاشت عصبيتهم، فلا وجه لإعمال الحديث.

ومن ثم، يمكن عندما نبحث في سياق حديث: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم... إلخ» أن نجده مناسبًا لسياقٍ حديث عهد بالإسلام، وقريب من الجاهلية، ولكن إعماله في سياق رسخ فيه الإسلام، وضغطت فيها المصلحة لا يصح، خاصة أن المصلحة نص في الشريعة.

رابعًا: سند الحديث لا يخلو من جرح؛ فأحد رواته وهو إسماعيل بن أبي أويس، قال فيه الحافظ بن حجر في [تقريب التهذيب، ص 137] عند ترجمته له: «صدوق، تُكُلِّم فيه» وهذه عبارة جرح. رغم أنه توبع على الرواية.

والخلاصة أن المصلحة الحاضرة للسعودية تحتم عليها استغلال هذا المرفق الضخم، لا نسفًا للحديث، ولا نسخًا له، إنما تخصيصًا وتبيينا له، كما قال الإمام الطوفي. ونعود فنذكر بأن قولنا هذا يقوم على افتراض أن ديار ثمود هي مدينة العلا، وهو ما لا يسلم به قطعا، كما أسلفنا، وعلى افتراض صحة سند الحديث وسلامة رواته من الجرح، وهو ما لا يسلم به أيضا.