قد تكون وصلتكم هذه النسخة من قصة «خراف بانورج» والتي تم تداولها تقريبًا كالتالي:

«كتب المؤلف الفرنسي» فرانسوا رابليه «عام 1532 قصة تدور أحداثها حول رجل يدعى «بانورج» وتاجر أغنام يدعى «دندونو»، اللذان كانا في رحلة بحريّة. كان «دندونو» تاجرًا جشعًا يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية، وحدث أن وقع شجارًا بين «بانورج» والتاجر، صمم على أثره «بانورج» أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء خروف منه بسعرٍ عالٍ؛ الأمر الذي أسعد التاجر. ولكن بعد الشراء أمسك «بانورج» بالخروف من قرنيه وجره بقوة إلى طرف السفينة ثم ألقى به إلى البحر، فما كان من بقية الخراف، وسط ذهول التاجر وصدمته، إلاّ أنْ تبعت خطى الخروف الغريق لتلقى المصير نفسه، هنا جن جنون التاجر وحاول منع القطيع من القفز لكن دون جدوى. وبدافع قوي من الجشع اندفع للإمساك بآخرها آملا في إنقاذه، إلّا أن الخروف كان مصرًا على الانسياق وراء البقية، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا غرقًا.

ومن هذه القصة أصبح تعبير «خراف بانورج» مصطلحًا شائعًا ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين، فليس أخطر على مجتمع ما من تنامي روح القطيع لديه، وكثيرًا ما تصادفنا في حياتنا الآن قطعان كاملة من «خراف بانورج»: تردد كلامًا أو تفعل أفعالًا لمجرد أنها سمعت أو رأت من يقوم بذلك»!

الآن سأقدم ما أعتقد أني توصلت إليه من خلال تعمقي في الموضوع، وربما في سنوات قادمة سوف أرى شيئًا آخر، فبعد قراءة المزيد قد أغير رأيي أو أؤكده، من يدري؟! لكن في الوقت الحالي، سأعطيكم شيئًا ليتغذى عليه الفكر أو يثير الفضول للبحث عن المزيد، وسأبدأ بهذا السؤال: «هل المغزى الوحيد هو المتداول»؟

برأي أن ما سبق هو ملخص لقصة تم صياغتها بأسلوب ساخر، بحيث تتحدى قدرة القراء على التفكير النقدي المستقل. فمثلاً نجد تلاعبًا بالمفردات من قبل المؤلف الذي جمع في العنوان ما بين الكلمة الإغريقية «بانورج» التي تعني «المخادع، الماكر، الجبان» والخراف! ولكن، «بانورج» ليس صاحب الخراف! والذي حصل أن من قام بالتلخيص، تمسك بهذه الصفات ومن ثم ألصقها بالتاجر «دندونو»، بينما بالرجوع إلى مجريات الأحداث نكتشف أن المخادع والماكر والجبان ليس سوى «بانورج»!

ففي مشهد المبارزة سقط قلب «بانورج» من الهلع، ولولا تدخل ريس السفينة لما كان نجى! لقد تداول الكثيرون أن «دندونو» عوقب بسبب إهاناته وجشعه، رغم أن التفاصيل تظهر عكس ذلك تمامًا! إن «بانورج» هو الذي وجه أقسى وأقذر الإهانات لــ «دندونو»! بل إنه نعته ضمن الكثير من الصفات الحقيرة بـــ «يا كبش محمد، بما أنك أحد عصابة الشيطان»! ألا يدلنا هذا النعت على عنصرية وتفكير خبيث؟! إنه ليس سوى انعكاس لحقد وتعالٍ على حضارة كانت مزدهرة حتى في ذلك الوقت، ومن الظاهر أنه كان يعتقد بأن «أتباع محمد، عليه الصلاة والسلام، سوف يغرقون، كما تغرق الخراف خلف قائدها، ولا أحتاج أن أتطرق لـ «عصابة الشيطان» وما تعنيه بعد النعت بـ «كبش محمد»!

لقد تمت معاقبة التاجر لجرأته على دخول نظام اقتصادي خاص بالأثرياء، وهو القادم من خلفية متواضعة اجتماعيًا وغير متعلمة وغير متمدنة؛ حسب معايير ذلك العصر! لقد كان يتصرف بطبيعته، لذلك تعرض للسخرية من قبل الطبقة المخملية ممثلةً بحاشية «بانورج» والتي فيما بعد طلب منهم أن يقفوا بعيدًا ليتابعوا مشهدًا «بديعًا» حسب تعريفه لما سيفعله بالتاجر! لقد أراد أن يجعل منه مثالًا لأولئك الذين يجرؤون على التطلع إلى الأعلى؛ الطبقة المثقفة الثرية والمتعلمة تسخر من الطبقة الفقيرة الجاهلة المتسلقة! بمعنى أن الأغنياء، بما أنهم الطبقة الأعلى، يجب أن يسيطروا، وأن يستمر الوضع على ذلك دائمًا، بينما الفقراء ليس ليهم سوى التقبل والبقاء حيث هم! حتى موت «دندونو» لم يُجَادَل في حدود الإيمان من قبل رجل الدين، بقدر ما تمت مساءلة النية من وراء القتل! وأقول قتل لأنه بعد أن وقع في الماء وضع «بانورج» المجداف فوق رأسه ليمنعه من الصعود إلى السطح!

لم يمت «دندونو» بسبب الجشع، وإن طالب بستة أضعاف السعر المتداول، فهو كان يرى بأن ما يمتلكه يساوي ثروة، بل فصّلها وأوضح ذلك بالأمثلة، خاصة أن السوق كانت محتكرة من تجار الحرير الإيطالي، الذي كان ينافس تجارة الصوف المحلي «الفرنسي» بستة أضعاف السعر لنفس الكمية! هو رفض بيع «بانورج»، رغم إصراره، لأنه لم يكن ينتمي لطبقة رعاة الأغنام وبالتالي لا يُقدّر قيمة الخراف! وعندما عرض السعر جعله عاليًا متوقعًا تراجع الآخر ويتخلص من إصراره، حتى حينها لم يوافق إلا بعد تدخل الريس مرة ثانية!

أدعوك عزيزي القارئ لقراءة القصة، وأمثالها مما هو متداول، والتأمل في التفاصيل بشكل أدق، هذا إن كنت تريد حقًا تحقيق أقصى استفادة من الأدب، لذا اقرأ بعمق، اقرأ بتوسع، ثم تأمل وتعلم، ارجع للمصدر أو الترجمة الأصلية وليس لتحليلًا وصلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأنك حين التعمق والتوسع؛ خاصة عند التطرق للعصر والخلفية الاجتماعية والتاريخية، ستتضح لك أن خلف الأمور أمور، إن تم استيعابها قد تسهم في تنمية معلوماتك وثقافتك وأساليبك في التفكير والنقاش.