تعارف مجتمع هذه البلاد منذ قرون طويلة على مجموعة من القيم والمبادئ التي ظلت تنظم حياته وتشكل حجر الأساس لكافة تعاملاته، وهي في غالبها تقاليد مجتمعية إيجابية مستمدة من العمق العربي الأصيل الذي يعلي من شأن الشيم الفاضلة والصفات الحميدة مثل النخوة والشهامة والمروءة ونجدة الملهوف. استمر التعامل العرفي بتلك القيم حتى جاء الإسلام الذي ركز على مكارم الأخلاق وجعلها حجر الأساس في دعوته، مصداقا لقوله صلى الله عليه سلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

من تلك الصفات المجتمعية التي كانت شائعة في ذلك الوقت عادة «الجيرة» أو «الوجه» أو «ردّ الشأن» والتي تعني قيام إحدى القبائل أو المجموعات بتوفير الحماية لمن يستجير بها ويطلب دعمها في مواجهة قبيلة أخرى تطالبه بدم أو دية أو أي حق من الحقوق، فكانت القبائل تتباهى بقوتها ونفوذها ومكانتها وقدرتها على حماية من يلجأ إليها، وتبذل في سبيل ذلك كافة جهودها، وتنفق أموالا طائلة وقد يصل الحال بها إلى خوض الحروب والغزوات في سبيل ذاك الهدف.

بعد مجيء الدولة السعودية التي سنَّت القوانين الناظمة للحياة، ووضعت عقوبات محددة لكل من يتجاوز تلك القوانين تراجع ذلك التقليد وبدأ في الاضمحلال نتيجة لسيادة القانون، وهذا تطور طبيعي تفرضه عوامل التطور وسيرورة الحياة، فبعد أن كان رد الحقوق وكفالتها يعتمد على مكانة القبائل والمجتمعات أصبح يقوم أساسا على قوة الدول والحكومات.

خلال بعض الفترات من تاريخنا سعى بعض أصحاب الأجندات الخاصة لإحياء تلك العادة المندثرة التي لم يعد لها وجود في عالم اليوم الذي تغلب عليه التشريعات وتحكمه الأنظمة، وكأن هؤلاء يريدون العودة بالتاريخ إلى مئات السنين ويشطبون بجرة قلم كل الإرث القانوني الذي اكتسبناه خلال القرون الماضية، ويريدون منا أن نتحاكم إلى غير القوانين النظامية وأن تسود بيننا لغة القبلية من جديد ونعود إلى عصور تجاوزناها وولى زمانها.

مما يثير الدهشة والعجب أن كثيرا من هؤلاء يستندون في محاولاتهم إلى تفسيرات خاطئة للقرآن الكريم والأحاديث النبوية، ويحاولون إنزال آيات مباركة نزلت في حق المشرك الحربي الذي ليس له عهد فيجعلونها أدلة على جواز تلك العادة القبلية التي تسببت في كثير من الأحيان في ضياع الحقوق المصونة وسفك الدماء المعصومة، متناسين أن دستور هذه البلاد يقوم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

هؤلاء يتجاهلون أن الإسلام أولى غاية عنايته لحفظ الأنفس وصيانة الدماء وجعل عقوبة من قتل نفسا بغير حق كمن قتل الناس جميعا، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل القتل جريمة عظمى تأتي مباشرة بعد الشرك به، وذلك في قوله «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق» وذلك لخطورة ما يترتب عليها من اضطراب في سلامة المجتمعات وإخلال بأمنها ومدعاة للفوضى.

بعد هذا التبيان الواضح الصريح يأتي من يحاولون لي عنق الحقيقة وتفسير الأمور بحسب أهوائهم الشخصية ويطالبوننا بالعودة إلى الوراء وتجاهل كل ما حققناه من مكتسبات في الميدان القضائي، وما أنجزناه من تطور شامل لإنشاء مجتمع مدني متحضر والاعتماد على القوانين القبلية التي تتفاوت من منطقة إلى أخرى ومن حالة إلى غيرها.

ومع التسليم بأن بعض هؤلاء ربما كانوا ينطلقون من غايات تسعى إلى الإصلاح وتحقيق الصالح العام، ويرون أن عادة الجيرة تساعد في تخفيف التوتر وحل النزاعات بين الناس، إلا أنه فات عليهم أن هذا هو واجب الدولة ودور الأجهزة العدلية والقضائية المعنية بتحقيق هذه الأهداف السامية، وأنه رمز لسيادتها وكرامتها ومبعث فخرها واعتزازها، لذلك لا يمكن المساومة عليه أو التغاضي عن كل ما يمكن أن يهدده.

وقناعة بأهمية الدور الذي يلعبه المجتمع في تطور الحياة العامة، فقد بادرت إمارة منطقة نجران بتوضيح الأمور لمشايخ القبائل وتنبيههم بالكف عن محاولات السعي في طلب الجيرة، وأهمية القيام بالأدوار المنوطة بهم في تسليم الهاربين من الجناة، لأن رعايتهم ودعمهم أو إرغام الآخرين على العفو عنهم بأي شكل من الأشكال هو تحد لسلطة الدولة ومنازعة صريحة لها في صلاحياتها، وهو ما لا يمكن السماح به أو التساهل معه في أي ظرف من الظروف. وأكد سموه في أكثر من مناسبة أن إيواء المجرمين مشاركة في الجرم.. وأن الدولة أولى بـ«الجيرة».

هذا الجهد التوعوي الذي شهدناه في منطقة نجران وتبعتها في الاتجاه نفسه منطقة عسير وغيرهما يؤكد بوضوح أننا بمثل ما نعيش نهضة قانونية متكاملة وثورة تشريعية هائلة شملت جميع أوجه حياتنا في هذا العهد الزاهر الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف مباشر من ولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – فإننا نشهد في ذات الوقت جهودا توعوية كبيرة تسعى للنهوض بالمجتمع والارتقاء بأفراده لاستيعاب مفردات المرحلة الحالية والمقبلة.

تلك الجهود المشتركة تهدف بالأساس إلى وضع الأمور في نصابها، وإزالة اللبس من الأذهان، والتأكيد بوضوح كامل أن حفظ الأمن وكفالة الحقوق ورد المظالم هو واجب أساسي ملقى على عاتق الدولة وحدها، وأنه لا عذر لأحد بالجهل، وأن من يتستر على مجرم فهو مجرم، وأنه لا مكان لأي جهد مشابه، إلا إن كان بهدف الإصلاح بين الناس، شريطة أن يكون في إطار القانون ووفق رضا الناس وموافقتهم وليس غصبا أو رغما عنهم.