يسبر القصة القصيرة فن جميل، يُحيرك جماله لأنك تحاول ـوأنت تقف عند آخر كلمة في هذا النموذج أو ذاك منه- أن تكتشف سر ذلك الجمال، وأن تشرك غيرك في تذوقه، فلا تجد ذلك أمرًا ميسورًا، لقد حاول القاص أن ينجح في اقتناص لحظة حياتية قبل أن تتسرب مفلتة من بين يديه، وأن يضعها ضمن نظام معين، وما أعتقد أن القارئ الذي يحاول أن يسبر أغوار ذلك النظام بأقل حاجة منه إلى القدرة على اقتناص العلة الكامنة في ذلك البناء.

إنه حقًا بناء صغير، والبناء الصغير قد لا يوحي بالجلال والعظمة والسموق، تلك الخصائص التي تتحدث عن نفسها دون بحث أو تفتيش، ولكن البناء الصغير -حين يكون متقنًا- يتحدث عنه أيضًا ما فيه من دقة وإرهاف وتناسب وإحكام، غير أن هذه الصفات نفسها هي التي تجعل اتقانه شديد المجاورة للوقوع في الخطأ أو التنافر، وتحكم عليه لا له.

ومن ثم لجأ النقاد إلى القول: إن نجاح القصة القصيرة إنما يتجلى في «وحدة التأثير»، ففي القصة القصيرة -كما في الرواية- يجتمع الموضوع والحبكة والحدث والأشخاص والجو والثيمة (أي العنصر الذي يمنح القصة القصيرة مغزاها أو معناها)، وغير ذلك من عناصر، لتعمل معًا متضافرة متآزرة، ولكن كيفية لقاء هذه العناصر، وبأي نسب تكون، يختلف من قصة قصيرة إلى أخرى، بحكم الشكل الصارم الذي تخضع له، وعلى هذا فإن أي واحد من تلك العناصر لا ينفرد بالتمييز، لأنها جميعًا تعمل معا وإن لم يكن عمل كل واحد منها مساويًا لعمل الآخر.

وعلى الرغم من أننا قد نقول إن كل قصة تمثل علاقة ما بين كاتبها والحياة، وأن هذه العلاقة تعكس رؤية خاصة، وأن هذه الرؤية قد تصور موقفًا أو حكمًا خاصًا، فإن ذلك أبعد ما يكون عن تحديد مهمة القصة القصيرة ودورها، لأن هذا الوصف لا يميزها كثيرًا عن غيرها من الأنواع الأدبية، ولأنه يمنح كل قصة قصيرة الاستقلال بمميزاتها، ويجعلها كونًا صغيرًا له نظامه الخاص به.

ولهذا كان الوصول إلى تعريف شامل للقصة القصيرة يعد محاولة غير ذات جدوی، مثلما أن حصر الأشكال الناجحة منها يفوت كل محاولة، فقد أثبتت الأيام أن هذا اللون الأدبي في تطور مستمر، وأن أشكاله تتعدد وتتكاثر كلما اختلفت التجربة أو تغيرت زاوية التركيز عند كاتب دون آخر، فإذا وجدنا تعريفات كثيرة للقصة القصيرة فليس ذلك إلا دليلا على أن كل تعريف سابق كان قاصرًا من إحدى الزوايا، ومن ثم فلا يستبعد أنه كان مضللا لمن حاول من الكتاب الناشئين أن يلتزم به أو يمشي على هديه.

وللقصة القصيرة في العربية تاريخ عريض لا يمتد طولا في الزمن، وليس هذا موضع رصد المراحل التي قطعها هذا الفن في تطوره، ولكن لا بد من القول إن القصة القصيرة أصبحت مع الزمن تحمل صبغة محلية أعمق، تتوجه إلى العمومية، كما يقول الدكتور محمد شاهين، وهذا معناه أنها أصبحت أكثر اعتمادًا على البيئة العربية وأكثر تفاعلاً معها، وأنها لم تعد انبهاراً بنماذج وافدة.

وإذا صح أن القصة القصيرة فن مرهف دقيق شديد الحساسية (وذلك صحيح دون ريب)، فكيف تفسر هذا الفيض الجارف من القصص القصيرة؟ وكيف أصبح كتاب هذا اللون يعدون بالمئات في العقود الثلاثة الأخيرة؟ أليس ذلك يوحي لأول وهلة بالاستسهال؟ إننا لا ندفع أن يكون هذا الوهم من أسباب الهجوم الكاسح على مزاولة هذا الفن، ولكن سرعان ما يتميز البرق «الخلب» من البرق الواعد بالمطر، ولا يبقى في الميدان إلا نسبة ضئيلة من هذا العدد الكثير، لقد أتيح لي ـوبخاصة في السنوات الأخيرةـ أن أقرأ أعدادًا وفيرة من القصص، وأن أعود بالقراءة على أشياء فاتتني قراءتها، ولكني أقول إن دراسة القصة القصيرة دراسة شمولية قد أصبح أمرا متعذرًا حتى على مستوى قطر واحد، فكيف على مستوى جميع الأقطار العربية ؟

ثم إن القصة القصيرة تشبه القصيدة الغنائية: كلتاهما محكومة بشيئين، بالبؤرة الشعورية التي تنمو إحداهما حولها، وبطول مهما يمتد، فإنه لا يتجاوز مقدارًا تحتمه وتقرره دورات نمو لا بد أن تقف به عند حد، ثم تختلف كلتاهما فيما عدا ذلك.

ولهذا فإن مقتل القصة القصيرة -فيها أراه- أن تفلت من يد كاتبها فتتحول إلى قصيدة في مستوى التعبير ونوع التصوير والسياق العام، وعند ذلك تفقد خصائصها التي تكفل لها استقلاليتها.

1989*

* ناقد ومحقق ومترجم فلسطيني «1920 - 2003»