يقول سيجموند فرويد إن «الحضارة بدأت عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلا من حجر».

الحضارة والأخلاق متلازمة إنسانية، إذ تتأثر أخلاق الناس ويتشكل سلوكهم الاجتماعي حسب نتاجهم الحضاري المادي والمعرفي.

الحضارة أم الأخلاق ومرجعيتها الأولى، هذه حقيقة لا تقبل الجدال. ولكل عصر قيمه الحضارية الخاصة، ثم ترتبط كل قيمة حضارية بحالة أخلاقية مستمدة منها.

وعليه لا يصح عقلا ولا منطق،ا أن تستخدم الأخلاق بأثر رجعي، فنحاكم ممارسات الناس قبل ألف عام وفق حالتنا الأخلاقية اليوم، ثم نغرق في بحر متلاطم من الاستدلالات الجدلية الخاطئة، بل إن الجدال في هذه الحيثية المنطقية تحديدا هو ما أنتج إشكالية التنظير غير المتوازن حول المرجعيات الأخرى المفترضة للأخلاق كالدين والسياسة وغيرها، فتجد شخصا يسألك على سبيل المثال: لماذا لم يمنع الإسلام العبودية؟

سؤال خاطئ مبني على فكرة أن الدين هو مرجع الأخلاق ومنتجها.

الحقيقة أن لكل حضارة زخما وتمظهرات اقتصادية واجتماعية وفنية، تؤثر بدورها في الأخلاق.

فنحن نعلم مثلا أن تطور النظام الاقتصادي أوجد فكرة شراء الوقت وهو ما نسميه (التوظيف) بمقابل، فساهم هذا بإلغاء النظام الإقطاعي والعبودية، وأسس لمفاهيم أخلاقية كالحرية والمساواة، ثم حقوق العمال والطبقة الكادحة.

قياسا على ذلك فإننا لو بحثنا أي مسألة أخلاقية نعتبرها سيئة أو غير إنسانية، لوجدناها نتاج مرحلتها الحضارية فقط.

إن قيم المساواة بين الجنسين وحماية الحياة والحريات الفردية، والقوانين المناهضة للتحرش والتنمر، وكذلك العمل الحقوقي لرعاية الأيتام والمعاقين ومبادئ حقوق الإنسان، وحتى حقوق الحيوان،كل هذه المسائل ذات الطبيعة الأخلاقية، هي في الواقع نتاج التقدم الحضاري فلا يمكن محاكمة التاريخ في عصور بدائية على عدم التنبه لها أو عدم ممارستها، فضلا عن المطالبة بتصديرها إلينا في صورة نصوص أو تشريعات.

المدهش أن الأخلاق في أي نسق اجتماعي متحضر، لا يمكن أن تتراجع بل العكس تماما هو ما يحدث، فعقارب الحضارة لا تدور للوراء والادعاء بوجود مسار أخلاقي أصولي مستقر هو ادعاء زائف.

إذا لا مبرر لتشاؤم البعض والمخاوف من احتمالات النكوص الأخلاقي بسبب ما يستجد على سلوك الناس وتجاربهم فهذه مجرد متغيرات ضمن الدورات الحضارية الكبرى التي لا تتوقف.