حينما ناقشت مع أحد الأصدقاء المتدينين، وهو إمام مسجد سابق، حول أفكار المقالين السابقين، وجم طويلًا عندما شرحت له وجهة نظري حول طريقة إعداد أئمة المساجد ومؤذنيها، عبر دورة تأهيلية متقدمة، تمتد لسنتين على الأقل؛ ليتمكنوا من أداء مجموعة من الوظائف الدينية في وقت واحد، بعد أن يعينوا عليها بشكل رسمي، والتي تتمثل في: الإمامة، والخطابة، والقيام بمهام الدعوة والوعظ والإرشاد، وتوعية الجاليات، ومهام الحسبة، وتدريس القرآن الكريم، وغير ذلك.

ووجهة نظري تلك تتلخص في أن تتضمن الدورة مناهج نظرية وعملية، في العلوم الشرعية، وعلوم اللغة العربية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفنون المسرحية والأدائية، والتدريب على الأداء الصوتي، وإتقانٍ مقبولٍ للمقامات الموسيقية، واتقان للبحث العلمي ومهارة تأليف الخطب والمواعظ والدروس والكلمات، مع محاضرات وقراءات مكثفة في الثقافة العامة في مجالات مختلفة، لم يكن سبب الوجوم مسألة حشر بعض العلوم الفاجرة في نظر المتدينين فحسب، بل كان في كيفية إقناع هذا الكم الهائل من أئمة وخطباء ومؤذني جوامع ومساجد المملكة -التي يفوق تقديرها في بعض الإحصائيات مائة ألف جامعٍ ومسجدٍ- بمسألة حاجتهم لإعادة التأهيل، وإقناعهم بأهمية هذه المواد لمن يتصدى لمثل مهامهم المنوطة بهم، خصوصًا وفيهم أساتذة جامعات وقضاة ومفتين وطلبة علم كبار طابقت شهرتهم الآفاق، وهذه بحق معضلة كبرى، حيث ربّت الصحوة في المنتمين لتيارها مسألة الاستعلاء الشعوري، الذي يدندن حوله سيد قطب ومجموعة المربين الحركيين من بعده، وهو ما نعرفه – نحن العاديين أو العوام – (بالكبر)، غير أني ذكرت لصاحبي أن هؤلاء الموظفين في وظائف رسمية أخرى يجب أن يبعدوا من هذا السلم الوظيفي الجديد منعًا لازدواج الوظائف.

إنَّ الحاجة إلى تنظيم الوظائف الدينية، لا يقتصر على وقف الهدر المالي الكبير في المكافآت والرواتب، بتقليص الوظائف وترشيدها، بل إنه حتمًا سيقود إلى تخفيض الإنفاق المالي المتفاقم في المرافق التابعة للجهات الدينية المختلفة، والتي يُصرف عليها بسخاء لتكون على أفضل طراز ممكن، وإيجاد مرفق ديني على أفضل طراز، هو أمر ممكن مع الإدارة الرشيدة للمصروفات والتكاليف، حيث إن أرقام الصرف اليومي والسنوي على هذه المرافق مهولة، ويكفي أن تأخذ على ذلك مثالًا: وهو الإنفاق على مصاريف الكهرباء في المساجد، والذي يقارب المليوني ريال يوميًا، هذا مع فتحها خمس مرات فقط بما لا يتجاوز أربع ساعاتٍ لمجموع الصلوات الخمس.


وعودة على فكرة الدورة، فحينما يضطر ما يفوق مائتي ألفِ موظفٍ دينيِّ، إلى دخول دورة تأهيلية متقدمة، سيرتفع مستوى الوعي والإدراك الضيق لدى الغالب من أولئك الذين صدعوا رؤوسنا بخطب ومواعظ ودروسٍ وكلمات مهترئة مكتظة بالأخطاء والأغلاط اللغوية والعلمية، ناهيك عن ضيق أفقها، وضيق عطنها، فبحسب (الكتاب الإحصائي 2020) لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، يوجد ما يقارب أو يزيد عن 84 ألف جامع في المملكة تحت إشرافها، مما يعني أكثر من أربعة ملايين خطبة سنوية، تصب في أذهان السعوديين، وهذا أمر بالغ الخطورة، يجب أن ينظم لتتم الاستفادة منه كما ينبغي، فلا يستقيم أن تتوجه الدولة لتمكين المرأة على سبيل المثال، وخطب الجمعة ما زالت تكرر وترسخ الفتاوى التي تحد من تحرك المرأة، وتحد من إمكانية تحكمها في حياتها، ولا يستقيم أن تتوجه الدولة للانفتاح الاقتصادي والسياحي، وهناك من يرسخ مسائل التعامل مع الآخر بالأفق الضيق الذي يعتمد فتوى محددة اتضح جليًا عدم صوابها، ولا يستقيم أن تتجه الدولة لتوسيع مشاريع الترفيه وهناك من يرسخ الخطاب الديني الذي ما زال يجرم الممارسة المقبولة والمعقولة للترفيه، وقسْ على هذا الكثير.

ومما يطول منه العجب، أنَّ هيئة دينية تخدم منطقتين محددتين في جزء من مدينتين متباعدتين، يوجد بها ما يفوق السبعين وكيلًا للرئيس، حتى ليخيل إليك أن كل موظف في تلك الجهة وكيلًا، أو وكيلًا مساعدًا، وأضف على ذلك ما نبهني عنه أحد الفضلاء في «تويتر» حول تضخم القطاعات والإدارات الدينية في الكثير من الدوائر الرسمية بلا حاجة ظاهرة وملحة لها، فالوعظ وإدارة شؤونه يكون بالتعاون مع الجهة المناط بها مثل تلك الأمور وهي وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ومع الفكرة التي ذكرناها آنفًا، وفي المقال السابق، سيكون تعيين أئمة ومؤذنين في مساجد تلك الدوائر الرسمية كفيل بحل هذا الأمر، دون الحاجة لوجود إدارات أو قطاعات للشؤون الدينية.

قصارى القول، يجب ألا يترك الأمر لرجال الدين الذين يلقبهم الناس بالمشايخ، بدون وجه حق أحيانًا، كي يحتكوا مباشرة بالمجتمع، دون رقابة أو ضبط، فقد رأينا ما الذي سببه هذا الاحتكاك في زمن مضى، ورجل الدين المنتشر والمستأثر بالمشهد اليوم لا يختلف كثيرًا عن رجل الدين الصحوي، إلا في مسألة الافتئات على الدولة والثناء عليها، وإلا فالمنطلقات ذاتها واحدة، والتطرف ذاته واحد، بل صدر من مدعي محاربة الصحوية ما يمس جناب الدولة في أعمالها ومنجزاتها، وما تقدمه من مشاريع ترفيهية وسياحية لشعبها المتعطش لمثل هذه المشاريع في أرض وطنه وتحت سمائه.

مرحلتنا هذه مرحلة تغيير كبرى تشابه مرحلة التوحيد على يد الموحد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه-، فصراع الأفكار الجديدة مع الأفكار القديمة فيها أمر بدهي وطبيعي، وكسائر مراحل التغيير عبر التاريخ توضع كل القيم والمبادئ تحت الفحص، والتحليل، وإعادة النظر، والمراجعة، والقوي منها سيثبت ويبقى، وما عدا ذلك سيطويه التغيير.

ومن هنا يجب أن نحمي مجتمعنا من خلال عدم تركه نهبًا لعقول متكلسة تتصدر للمجتمع بخطاب ديني رخو، ومتهالك، سواء في الفتوى أو الخطبة أو البرنامج التلفزيوني، أو في المقالة الصحفية، ولك أن ترى ذلك حينما يتصدى أحدهم لكتابة مقال صحفي، فكأنك تسمع لخطبة جمعة يقرأها عجوز طاعن في السن من كتاب عتيق، وهؤلاء لا يفرقون عن الصحويين في شيء، ذات التأليب، وذات الكذب، وذات الفجور في الخصومة، ونفس التحالفات لتمرير المصالح وتحصيل المنافع.

أخيرًا، تنظيم الوظائف الدينية يحل مشاكل كثيرة، ويجلب منافع أكثر، في مقدمتها المزيد من محاصرة التطرف، وتجفيف منابعه.