في فاجعة حريق الكنيسة في مصر الأسبوع المنصرم، تذكرتُ موقفين لا يزالان متصورين أمامي بكل أحداثهما، أحدهما موقف في بدايات الثمانينيات، كانت الثمانينيات تشتهر بما يُسمى زورًا وبهتانًا بالجهاد الأفغاني المشؤوم، حيث إن التسمية كانت مدخلاً للفكر الحزبي الحركي المتأسلم، كي يعبث بعقول وأرواح شباب هذا الوطن العزيز.

ذلك الموقف كان خلال السفر من مطار إسلام أباد إلى بيشاور، حيث كان يقع مقر بيوت الضيافة للشباب العربي والسعودي، خصوصًا لمن تم خداعه بأن جهاد الكفار قد تحتم، فوجب الخروج للقتال في سبيل الله، وهذه الدعوة للجهاد ضد الكفار كانت تدوي بها المآذن في كل مساجدنا، ويصدح بها كل مغمور كان يظن أنه في الزمن المدني قبل أربعة عشر قرنًا، وهو وأمثاله يحيون حياةً منفصمة عن الواقع، وهذه إشكالية حقيقية في بنية الفكر الديني المعاصر ولَما يخرج منها بعدُ!، هذه الدعوة للجهاد هي عبارات ومسائل كبرى كان يتوجب تحجيمها ووأدها في مهدها قبل تغلغلها في عقول أولئك الشبيبة الطرية التي لم يستو عودها بعدُ!.

الموقف كان عند المرور بمقبرة للمسيحيين فأخذ سائق المركبة (باص يحمل أكثر من عشرة من السعوديين صغار السن وقليلي التجربة)، السائق هو أمير الرحلة (وهذه الإمارة من إشكاليات الفكر الصحوي الجديد، الذي كان ولا يزال مترسخًا في المجتمع، وقد علمتُ فيما بعد أن السائق قد قبض، لأنه ممن بايعوا بن لادن على الخلافة وعلى الجهاد والقتال في جزيرة العرب!!)، فألتفت السائق للمقبرة التي كان يزعم أنها للمسيحيين وقال (يا أخوان هذه مقبرة كفار نصارى وقد أوصى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأن نبشرهم بالنار كما ورد في حديث -حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار- فقال بأعلى صوته وهو ينظر إلى المقبرة ويشير بيده إليها (أبشروا بالنار – أبشروا بالنار- أبشروا بالنار)، وكانت تعلو محياه علامات الفرح والسرور والغبطة والانتقام من أصحاب تلك القبور.


علق الموقف بذهني أكثر من ثلاثة عقود، ثم استمرت بنا الدنيا التي كانت تتغير في نظرتنا بتحول كل شيء كي يمر من قنوات الماضي الذي تجسد في الحياة المدنية، التي عاصرها رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، وكان هذا المسار هو المحدد والأوحد لمن يرجع تائهًا من أي مسار من مسارات الحياة التي تعتري الإنسان في حياته..

ذلك أن الطبيعة الإنسانية تُحتم على كل من ينطوي تحت مسمى إنسان أنه بالضرورة اللازمة لطبيعته أنه سيجري في مسارات متنوعة ومتناقضة، سواءً في المستوى الفكري أو العملي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو العاطفي، وسوف تعتري هذه النفس الإنسانية تقلبات منها عنيفة جدًا قد لا تستطيع النفس أن تقوى على جعل تلك الأثقال ترسو على ذلك الجسد والروح اللطيفة، فتخور قواها وتصبح غير قادرهة على حفظ التوازن الذي خُلق في طبيعة النفس البشرية، ذلك التوازن قد يختلف من نفس لأخرى من حيث القوة والضعف وقدرة التحمل، وذلك عطاء رباني لا مدخل للطبيعة البشرية في تغييره، ما عدا محاولة إضافة بعض الخبرات في رفع مستوى التوازن الروحي.

والموقف الآخر كان في الولايات المتحدة الأمريكية بولاية فلوريدا، عندما كنا نمر دائمًا على قبور الأموات في تلك الولاية التي كنا نتعلم فيها، فهل يعقل أن أفعل ما فعل ذلك الرجل في باكستان بتبشير أصحاب القبور بالنار!.

أخذت أتفكر ثانية في هذين الموقفين بتبشير أصحاب القبور بالنار، فوجدتُ أن ذلك تعتريه إشكاليات حقيقية من حيث الرواية والدراية، ومن حيث القبول العقلي لهذا التصرف الذي يتعارض يقينًا مع أصل رحمة الله -عزوجل- بعباده وإرادته لهم الهداية.. فأما من حيث الرواية فهذا الحديث لا يصح سندًا، وقد حكم عليه إمام العلل الدارقطني بأنه مرسل، والحديث المرسل هو الذي أرسله تابعي من التابعين عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يُنسب إلى مصدر التشريع الثاني الذي هي السنة، فهذا القول (حيثما مررتم بقبر مشرك فبشره بالنار)، هو من قبيل الحديث المرسل، ولا يصلح للاحتجاج به وجعله دليلاً على مسألة من المسائل العقدية التي تمثل إشكالية من إشكاليات الفكر الجهادي المتطرف.

هذا الحديث المرسل هو قول بشر تتم مناقشته ولا يتوجب قبوله، أما من حيث الدراية فلا يُعلم عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه في حادثة من الحوادث أو واقعة من الوقائع أنه مر على قبر مشرك فبشره بالنار، كذلك لم يؤثر عن أحد من صحابته، أنه قد تصرف مثل هذا التصرف، ويتعارض مع أصل أصيل في الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي أنه، صلى الله عليه وسلم، بُعث بالحنيفية السمحة، و قد نص صراحة، عليه السلام، في الحديث الصحيح يقينًا أنه قال (وإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

كذلك فإن المعقول اليقيني من كليات الشريعة أنه لا أحد يعلم يقينًا أن مسلمًا هو من أهل الجنان إلا ما شهد له الشرع يقينًا بأنه من أهلها، ولا يُحكم بالجزم على أحد أنه من أهل النار، ذلك لأنه من علم الغيب الذي أستأثر به الخالق، فلا يمكن الجزم بأن فلانًا من أهل النار أو نبشره بالنار، فهذا قول على الله بغير علم، فلا أظن أن ناشئةً تتربي على التلقين بأنها إذا مرت على مقبرة مشركين أو مخالفين للديانة الإسلامية، أن تبشرها بالنار تكون منفتحةً على الأمم والحضارات المعاصرة التي تستقي منها كل جديد، ولا أظن أن تلك الناشئة إذا ما تم تلقينها بذلك الفكر الحتمي في رؤيته من خلال انغماسه في الحكم على الأموات وتدينه بذلك، ألَّا يكون فريسةً سهلة للفكر الجهادي التكفيري المتطرف، فيتوجب معالجة كل رؤية يمكن أن تكون مدخلاً لأي فكر متطرف حماية لهذا المجتمع الآمن المستقر.