نحت الشيخ محمد الغزالي (ت: 1996) مصطلح «التدين المغشوش»، وكرر الحديث عنه في أكثر من مؤلف من مؤلفاته؛ ووصفه في كتابه (علل وأدوية) بقوله: «وعندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع، وغايته تبعد أو تتلاشى». ثم يصف التدين الصحيح بقوله: «المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر. أما المراسم الجوفاء، والصورة الشاحبة، فلا دلالة لها على شيء. ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه، فهو عما سواهما أعجز. ويوم يتولى عملًا ما في المجتمع، فسوف يكون نموذجًا للفشل، لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا».

وصفٌ بديع من الغزالي للتدين المغشوش، كما أطلق عليه هو. وبالمناسبة، فثمة فرق بنيوي بين الدين والتدين. يشرح ذلك الباحث والمفكر (عبدالجواد ياسين) في كتابه (الدين والتدين) بأن «الدين كلي مطلق قادم من خارج الاجتماع. ولأنه لا يعمل في الفراغ بل من داخل الاجتماع، فإن حضوره يؤدي بالضرورة إلى حدوث التدين (ممارسات البشر للدين في الواقع)». ثم يضيف: «المشكل ليس في حدوث التدين، بل في تحوله إلى دين، أي اكتسابه صلاحيات السلطة المقدسة (المؤبدة) للمطلق. وهو ما يعني تثبيت كتلة من الثقافة التاريخية، هي بطبيعتها غير قابلة للتثبيت داخل نطاق المطلق المقدس أي الثابت الملزم».

بعبارة أوضح، الدين هو الموحى به من عند الله الذي لا يـأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو معصوم ومحاط بهالة من القدسية أن يُنتقد أو يُمس. أما التدين، وهو ممارسة الدين في الاجتماع، فهو قراءة بشرية للنص الديني، ليس بالضرورة أن تتفق مع مضمونه، فضلًا عن أن تتبين مقصوده. ولعل أبرز ظاهرة اجتماعية تؤكد هذا الفرق البنيوي بين الدين والتدين، هي تلك المذاهب التي نسلت من الأديان، والتي اختلفت فيما بينها إلى حد أنها تحاربت، وقاتل أصحابها بعضهم بعضا، بوهم أن كلًا منها كان يعتقد أنه يمثل الدين بمعصوميته. ولو أن أهل المذاهب نظروا إلى مذاهبهم كظواهر اجتماعية فحسب، لما سال الدم بينهم مدرارًا على مر التاريخ، ومدار الجغرافيا، ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ثم خلف من بعدهم خلف فصَلُوا بين التدين الشعائري والسلوك، فتراهم محافظين على الصلاة، ملتزمين بالسمت الذي يشير إلى تدين صاحبه، لكنهم على مستوى السلوك أبعد ما يكونون عن التدين، فضلًا عن الدين، رغم أن الصلاة لوحدها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما جاء في القرآن. بل إن الصلاة إن لم تنهَ صاحبها عن الفحشاء والمنكر، بما فيها الفحشاء والمنكرات المدنية، فلن تزيده من الله إلا بعدا، كما جاء في الحديث الصحيح: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا». وهكذا، يربط الهدي النبوي الكريم بين أداء الشعائر، والسلوك الفردي الإيجابي تجاه الجماعة.

استطردتُ هكذا بسبب مناسبة مرت بي قبل أيام، وذلك أني كنت قاصدًا المسجد الجامع لأداء صلاة الجمعة، فلما وصلتُ المسجد لم أجد مكانًا مناسبًا لسيارتي، لا لشح المواقف، بل لسوء إيقاف المصلين سياراتهم. ثم لما دخلتُ المسجد هالني ما رأيتُ من سوء رَكْن المصلين أحذيتهم في الأرض، رغم وجود دواليب مخصصة لها في المدخل. فلما فرغتُ من الصلاة ورجعتُ إلى البيت كان الموضوع، رغم اعتيادي عليه، لا يزال مسيطرًا عليّ، فكتبت تغريدة على حسابي في تويتر، قلتُ فيها: «قبل أن تسووا صفوفكم داخل المسجد، سووا صفوف سياراتكم خارجه، وأحذيتكم عند مداخله»، فانبرى أحد من أعرفهم جيدا للتعليق على التغريدة من منظور أني أنتقد الدين بذاته، وكان على ما يبدو منفعلا لما يظن أنه غضب منه للدين من أن يُنتقد!

المشكلة ليست في اعتقاده هذا بذاته، بل في قدرته على الفصل التام بين تدينه وسلوكه؛ فبحكم أني أعرفه تمام المعرفة، فالرجل أبعد ما يكون عن السلوك الفاضل الذي يتفق، على الأقل، مع معيار نَهْي الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛ فهو، مثلا، لا يتردد في ارتكاب الفواحش وخيانة أقرب الناس إليه، لأنه يعتقد أنه بمجرد أدائه الصلاة ستغفر ذنوبه، حتى وإن كانت تلك الذنوب تتصل بخيانة لا يقبلها أدنى الناس فضلا وتدينا. ولو علم ذاك الذي يخونه، بحكم قرابته إياه، بخيانته، لصُعِق من هول ما يسمع. وهكذا هو التدين المغشوش، الذي يفصل تماما بين العبادات والشارات الدينية من جهة، والسلوك الظاهري، خاصة ما يتصل بالعلاقة مع الآخرين من غش وكذب ونفاق بل وخيانة زوجية، من جهة أخرى.

ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حينما قال: «إن التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ».

ولله الأمر من قبل ومن بعد.