أصبح التكفير من التهم التي كما يقولون معلبة ومُلقاة على قارعة الطريق يتناولها كل مناوئ للسلفية، تاريخها ومبادئها وواقعها ليلقي بها على كل ما هو سلفي ومن هو سلفي، لأهداف متباينة تختلف باختلاف منهج الكاتب أو المتكلم.

ولا تكاد تدخل مواقع التواصل الاجتماعي إلا وتجد العديد من الشبهات تتناول السلفية من أطراف متباينة منها أمريكية وأوروبية وإيرانية ومن دول عربية وإسلامية، ليبراليين ومتصوفة وحركيين سياسيين وغيرهم.

كل هؤلاء ينسون خلافاتهم ويتحدون ويتواصون ويتواصلون في مجابهة السلفية.

من الجديد القديم في هذا الشأن: أن بعض الكتاب من الأشاعرة المتصوفة تعود نشر قصاصات من كتب السلفيين على مواقع التواصل الاجتماعي ليُثْبِتَ بزعمه أن السلفية هي مصدر التكفير في العصر الحديث، ولِيَجعل السلفيين دائمًا في موقف دفاع، ليس لهم قضية إلا شرح وتوضيح تلك القصاصات التي يُلقون بها، نازعين إياها من سياقها العلمي والتاريخي، وهو منهج رخو بعيد عن العلمية لذلك لا يتَّبعه السلفيون وإلا لملأوا الأرض من مصورات من كتب مخالفيهم فيها من الضلال ما يُشيب الرضعاء، لكن ذلك ليس من النقد العلمي بمكان، إذ النقد العلمي يُراد به بيان الحق والنصح للناس وليس مجرد التشنيع وإذكاء العداوات والأحقاد.

ولكن هل هؤلاء الذين يُشَنِّعون علينا بنشر هذه القصاصات يفعلون ذلك غَيرَة على الإسلام من فتاوى التكفير، وبيانًا للحق وإظهارًا لسماحة الدين، أم لمجرد مناكفة السلفيين والعمل على تشويه تاريخهم وحاضرهم؟

ولو كان الجواب هو الأول لرأيناهم يُنكرون كل صنوف التكفير سواء أصدرت عن علماء الدعوة السلفية أم عن أهل التصوف أم الأشعرية أم عن الشيعة أم الإسلاميين الحركيين، لكن الواقع أن فتاوى التكفير والقتل، إذا صدرت عن غير السلفيين في حق السلفيين من شتى الاتجاهات فلا تُوَاجه من هؤلاء المناوئين للسلفية إلا بالإقرار والثناء والتأييد، أو على أقل تقدير، بالصمت المطبق المريب.

وهذا الصنيع منهم كافٍ في فضحهم، إذ الصادقُ في مبدئه يُنزله على الجميع، فيَحْمَد جميع من وافقه فيه ولو كان خصمًا له، ويَذُم من خالفه ولو كان وِدًّا له، أما هؤلاء فيحمدون التكفير والقتل والعدوان ويُبَجِّلون صاحبه إذا كان من أوليائهم ويُشنعون على صاحبه ويفترون عليه ما لم يقل إن كان سلفيًا مخالفًا لهم.

وقد حَكَمَ على السلفيين بالكفر القاطع كثير من علماء الصوفية والأشاعرة والماتريدية فضلًا عن علماء الشيعة الاثني عشرية، ومع ذلك لم يَنَلْهم من هؤلاء المُشَنِّعة أدنى تشنيع تصريحًا أو تلميحًا.

مع أن الذين كَفَّروا أتباع منهج السلف، لم يكتفوا بتكفيرهم وحسب؛ بل حكموا بحِل دمائهم وأموالهم وسبي نسائهم واسترقاق صبيانهم، وقد حَرَّضوا على ذلك ودعوا إليه صراحة، وفعله قادتهم أي السبي والاسترقاق والبيع في الأسواق ولم يستنكره هؤلاء أدنى استنكار، وهم يعرفونه ولكنهم صامتون عنه صمت الموتى، مما يؤكد لك مجانبتهم العدل عمدًا وعدوانا، ومقارفتهم الظلم رضًا واطمئنانًا.

وستجد هذا التكفير والتحريض على القتل والسبي والاسترقاق كثيرًا عند أمثال محمد بن عبدالله بن فيروز، وأبيه عبدالله، وعند ابن سند الفيلكاوي، وابن داود، وإسماعيل التميمي التونسي، وابن عبدالشكور، وزيني دحلان، وغيرهم.

وفي هذا المقال سوف أذكر نماذج من هذا التكفير والتحريض لدى أحد هؤلاء وهو عبدالله بن عبدالشكور المتوفى سنة 1221هـ المكي المعاصر لعلماء الدعوة الإصلاحية، وهو من الواقفين على دخول الإمام سعود بن عبدالعزيز إلى مكة.

قال ابن عبدالشكور: «ومما أثبَتَه [يعني الشيخ محمد بن عبدالوهاب] أنه صلى الله عليه وسلم جيفة لا ينفع ولا يضر، وأن عصا أحدهم خير منه، فيكفر الملعون بهذا القول» ث519/2.

فلم يكتف ابن عبدالشكور بالكذب على الشيخ بنسبة هذا القول الشنيع إليه؛ بل صرح بكفره ولعنه.

ثم يذكر المؤلف قصة إرسال السعوديين ثلاثين عالمًا من الدرعية لمناقشة علماء مكة، وذكر أن علماء مكة لما ناظروهم: «وجدوهم ضحكة بينهم ومسخرة، كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى دينهم وما هم عليه من المعتقدات، وإذا فيها من الكفريات ما يشملهم من الست جهات، كفرًا صريحًا لا يحتاج إلى تأويل» ولم يكتف بهذا التكفير بل وصفهم بـ «الملاحدة الأندال»524/2

وقال: «فلما أقيم أخوه الشريف أحمد [شريف مكة أحمد بن سعيد أُقيم بعد الشريف مساعد بن سعيد] أرسل من علمائه [أي ابن سعود] كما أرسل في المدة السابقة فلما اختبروهم وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة، فأبى أن يُقر لهم في حما البيت قرار، ولم يأذن لهم بعد أن أثبت العلماء أنهم كفار، ومنعهم بموجب فتوى العلماء الأعلام، ولقوله {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام}» 2/ فهو يُقِر ويؤيد أن منع الدولة العثمانية وولاتها للسلفيين من الحج، هو كونهم مشركون أنجاس زنادقة.

ويقول ابن عبدالشكور عن إغزاء الشريف غالب لوادي حلي وأهله من أتباع الدعوة السلفية: «وأخذوا من البقر، والغنم، والرقيق، ما يزدحم بيسيره الطريق، وأخذ بعضُ العسكر سَبَيًّا من أولاد ذلك الفريق، وباعوهم بمكة بيع الرقيق»582/2.

فها هو يعترف بل يفتخر بسبي ولاة العثمانيين الأشراف لأهل وادي حلي واستحلال نسائهم وأولادهم، وبيعهم في أسواق مكة وليس لهم من جرم سوى كونهم سلفيين.

كما ذكر ابن عبد الشكور غزوات ولاة العثمانيين الأشراف، وأشاد بما وقع منهم فيها من القتل وسفك الدماء دون سبب سوى سلفيتهم، ولم يذكر غزوة واحدة للسلفيين أو لأئمة الدولة السعودية إلى الحجاز، الأمر الذي يؤكد صحة ما قاله أئمة الدولة السعودية وعلماء الدعوة السلفية من أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم بالقتال، وهذه نماذج من كلام ابن عبدالشكور في ذلك:

فمنه حديث عن غزوة العلم للشريف مبارك بن محمد، قال: «حتى وصل إلى موضع يقال له: العلم، صادف جماعة من الموهبين [أي أتباع الدعوة السلفية] من بني حرب، فأفتك فيهم قتلًا وسلبًا، وصكهم حين أعمى الله أبصارهم، وخذل شيعتهم وأنصارهم، وأخذ مواشيهم ومراحهم، وخلَّص الأرواح من أجسادهم؛ ثم توجه مقبلًا فصدف خمسًا وأربعين من الوهابيين، خارجين ببضاعة اشتروها من مدينة سيد المرسلين، فقبضهم ووضعهم في الحديد، وشنعهم أعظم تشنيع، وأخذ أخبارهم وقتل الجميع»562/2.

يأتي هذا القائد الصوفي إلى بادية آمنين في فلاتهم فيقتلهم، ويصادف تجارًا سلفيين قادمين ببضاعة من المدينة فيقتلهم ويأخذ مالهم، وابن عبدالشكور يَعُد ذلك من محاسن الشريف وجهاده في سبيل الله.

ويقول عن إغزاء الشريف غالب للخرمة: «وأَمَرَهُ بغزو الخرمة، لكونهم خرجوا من أتباع شرائع المسلمين، ودخلوا في دين الوهابيين، فأخذهم وارتحل، وقتل من دنا منه الأجل»556/2.

فقد غزا هذا القائد أهل الخرمة لسبب واحد وهو خروجهم من الإسلام ودخولهم في دين محمد بن عبدالوهاب !

وهذا هو التكفير الذي ما بعده تكفير.

هذا نموذج واحد وهو ابن عبدالشكور، لا يُصرُّح إلا عن قتال وقتل وتكفير وسبي؛ هذا وفي كتابه الكثير من النصوص ممن هي أشنع مما ذكرتُ ولكن نقلها يقتضي الإطالة، لما فيها من أسلوب السجع والإطناب الممل؛ ومع هذا لم نر ممن يزعمون الغيرة على الدين من التكفير أحدًا أنكر على هؤلاء أو شَنَأ أقوالهم وأفعالهم؛ بل ليس لهم هَمٌ ولا ديدن إلا التنبيش عن مقالات السلفيين ليدعموا بها المشروع الإيراني والأمريكي معًا، وهما المشروعان اللذان يُصران على وصم السلفية بالتكفير وتشويه حاضرها وتاريخها لمآرب ليس هنا أوان تفصيلها.

على أن هؤلاء العلماء الذين حكموا بكفر السلفيين لم يُقدموا بين يَدَي هذيانهم هذا فعلًا أو قولًا مكفرًا عند أحد من الأئمة يلتزم به السلفيون، سوى أنهم يرون أن الاستغاثة بمن دون الله شرك، وهذا نص القرآن وليس نصَّ السلفيين؛ وأن الله تعالى له صفات حقيقية تليق بجلاله من العلو على العرش وأنه فوق خلقه وغير ذلك من الصفات التي أثبتها القرآن ولم يأت بها السلفيون من تلقائهم.

أما غير ذلك مما حكموا على السلفيين بالكفر من أجله فأكاذيب أفِكُوها عليهم، وكلها كذبها الإمامان عبدالعزيز بن محمد وسعود بن عبدالعزيز، وقال عنها الشيخ محمد بن عبدالوهاب: «سبحانك هذا بهتان عظيم».