الصناعة في بلادنا هي أحد الخيارات الأساسية لتنمية الاقتصاد الوطني، والصناعات الأساسية هي خيار الصناعة الأول نظراً لمقومات هذه الصناعة المعتمدة على الغاز أساسا والصناعات البترولية المعتمدة على المشتقات البترولية، ثم تأتي صناعات الثروة المعدنية والتي تعد المخزون الإستراتيجي الثاني لاقتصاد المملكة بعد البترول. وحسب الإستراتيجية الرئيسية للصناعة فإن هناك أهدافا محددة لكل من الأبعاد الرئيسة الأساسية وهي: دعم القاعدة الصناعية من خلال مضاعفة القيمة الفائضة للصناعة وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 20% بحلول عام 1441هـ (2020م)، وزيادة نسبة المنتجات المصنعة ذات القاعدة التقنية في إجمالي الإنتاج الصناعي من (30%) إلى (60%) بحلول عام 1441هـ، ثم البعد الدولي للصناعة من خلال رفع حصة الصادرات الصناعية من إجمالي الإنتاج الصناعي من (18%) إلى 35%) خلال مدة الإستراتيجية.

ورغم جميع الجهود التي تبذل من قبل القيادة السعودية لدعم الصناعة والصناعيين ابتداء من توفير الأراضي الصناعية وبناء البنية التحتية وتمويل المشاريع الصناعية إلى نسبة 70% من التكلفة في المناطق الصغيرة النائية، ورغم القرارات الداعمة المساندة من المجلس الاقتصادي الأعلى، إلا أنه وللأسف الشديد هناك معوقات وسلبيات محبطة ومنفرة وطاردة للاستثمار في الصناعة، ورغم الجهود التي تبذل لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية للمشاركة في مشاريع صناعية من خلال نظام استثمار رأس المال الأجنبي وتسهيلات هيئة الاستثمار، إلا أن الحقيقة على أرض الواقع تشير إلى أن معوقات الصناعة أكبر من حوافزها في بعض الحالات، وأكبر مثال على ذلك تأخر التنمية الصناعية في منطقة مكة المكرمة وفي مدينة جدة على وجه الخصوص نتيجة عدم توافر الأراضي الصناعية خلال العشرين عاما الماضية، وبالتالي هجرت العديد من الصناعات الأساسية محافظة جدة إلى محافظات مجاورة؛ حتى أعاد الأمل للصناعة في منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل صاحب المبادرات الخلاقة والعمل الدؤوب والمتابع؛ ليوفر لمنطقة مكة المكرمة حوالي سبعين مليون متر مربع في مناطق مختلفة في المنطقة لبناء قاعدة صناعية منافسة تدعم التنمية الاقتصادية في المملكة، إلا أن هذه الجهود الجبارة المبذولة من القيادة السعودية تواجه وللأسف الشديد بمعوقات الأنظمة واللوائح المنظمة التي يقترحها ويقرها بعض من المسؤولين الحكوميين الذين يعتقدون بأن التشدد في وضع الأنظمة واللوائح الاحترازية حماية لحقوق الدولة، رغم أن جميع الاستثمارات الخاصة تهدف أساسا إلى دعم التنمية في الدولة، وخسارتها أو فشلها يؤثر سلباً على التنمية الشاملة في الدولة، وتؤثر سلباً على حقوق الدولة في هذه المشاريع، وأقصد حق الدولة في القروض الممولة لهذه المشاريع.

إن بنود عقد تأجير أراضي المدن الصناعية الجديد تعد مجحفة ومحبطة وطاردة للاستثمار الصناعي، ومن هذه البنود قصر مدة عقد إيجار الأراضي الصناعية على عشر سنوات على أن يتجدد تلقائياً لمدة سنة؛ ما لم يشعر أحد الطرفين الآخر بعدم الرغبة في التجديد بستين يوما، ومقارنة بالعقد القديم (مدة العقد خمسة وعشرون عاما وتجدد لفترة أو فترات لا تزيد كل منها عن مدة العقد الأصلية وذلك بنفس الشروط أو بشروط أخرى يوافق عليها الطرفان). أي تطوير هذا في العقود؟ وهل يعقل أن يقام مصنع ويعمل وينتج في فترة أقل من ثلاث إلى أربع سنوات ابتداء من التخطيط والبناء والتوريد للمعدات والإجراءات الروتينية النظامية الإدارية الأخرى؟ أيعقل أنه خلال ست سنوات يتم تغطية رأس المال المستثمر وسداد الديون وتحقيق الأرباح ثم تسليم الأرض للدولة؟ علماً بأن الجهات الممولة لن تقبل التمويل إذا كانت فترات التأجير المتبقية بعد التشغيل قصيرة لأن حساب الاستهلاكات للمعدات يطول أحياناً إلى عشرين عاما وبعضها إلى ثلاثين عاما.

أما المادة العاشرة للعقد الجديد للأراضي الصناعية تنص على (للهيئة تعديل مدة الإيجار والقيمة المحددة كمقابل للتشغيل والتطوير والصيانة والرسوم خلال مدة هذا العقد (دون إشعار مسبق)، قمة الإجحاف في حق الصناعيين وقمة التعسف من هيئة المدن الصناعية. في الوقت الذي تنص الفقرة ثانياً من بند تعديل الإيجار والرسوم في العقد القديم، على أنه (يحق للطرف الأول زيادة بدل الإيجار وبدل صيانة المنشآت العامة بالمدينة الصناعية عند تجديد العقد شريطة أن يخطر الطرف الثاني بهذه الزيادة قبل سنتين من نهاية العقد)، وهذا هو المنطق ألا يُمس العقد القديم إلا في نهايته والعقد شريعة المتعاقدين، أما عقود الإجحاف فهي باطلة من وجهة نظري.

أي دعم للصناعة وأي استقرار استثماري في الصناعة وسيف زيادة الإيجارات أو زيادة الرسوم مسلط على رقبة المستثمر؟ ولمصلحة من؟ وهل ميزانية الدولة بحاجة ماسة لهذه الزيادات؟ وأي عقد هذا الذي يعطي حق التصرف غير المقبول لا شرعاً ولا عقلاً؟

أما البند الرابع من عقد الإيجار في المدن الصناعية الجديدة فهو ينص على أنه ليس للمستأجر الحق في مناقشة أو رفض أو الاستغناء عن الخدمات المقدمة له؛ حيث يقول النص: (يلتزم المستأجر بدفع الرسوم والمصاريف ونفقات الخدمات المقرة حالياً أو التي تقر مستقبلاً كمقابل لتكاليف التطوير والتشغيل والصيانة).

هذا نموذج من الإجحاف في استخدام الحق من قبل المدن الصناعية، وإذا استمرت هذه الحال فلن يقدم المستثمرون الصغار على الصناعة ولن يأتي المستثمرون الأجانب وستهرب الصناعات إلى دول مجاورة، ولاسيما أن مشروع الاتحاد لدول الخليج قد يتحقق فلن يكون هناك ميزة نسبية للاستثمار الصناعي في المملكة العربية السعودية.

إن الأنظمة والقوانين واللوائح المدنية ليست تشريعاً إلهياً منزلاً ولكنها اجتهاد لتحقيق المصلحة العامة. فلا أرى مانعا أو حرجا من إعادة النظر في هذه القوانين واللوائح للتماشي مع التوجه نحو الاستقطاب للاستثمار في الصناعة. ولا أرى حرجا من إعادة النظر في فصل الصناعة عن التجارة وإنشاء وزارة للصناعة متخصصة في دعم ومساندة الخطط الصناعية للحفاظ على حقوق الصناعة والصناعيين وتحقيق أهداف الدولة تجاه الصناعة، وتجربة ضم الصناعة للتجارة لم تحقق النتائج المرجوة لها.