شبح الحرب لا ينام كثيراً، البصرة «أم العراق» جريحة، وصورتها مهتزة، تكالب عليها أرباب السلاح السائب، المجرمون والمتعطشون للقتل وسفك الدماء فتحوا أبواباً لطالما كانت موصدة، أبناء المذهب الواحد يتقاتلون على سفحها وسهلها، حمل كلٌ منهم بندقيته بوجه الآخر، لا الثارات ولا الحسن ولا الحسين ولا أبو الفضل العباس حد من الصراع الدامي، والسياسة تتصدر أي شيء في كل شيء، والعقل الراجح بات نادراً في بلاد نهشتها وحوش وقطاع الطرق.

لم يفهم أبناء العراق بعد، أن وحدة الصف ليست شعاراً يردد تحت قبة برلمان وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولم يستوعبوا بعد بأن نبذ الطائفية لا يأتي بالتغني بمقطوعة موسيقية لحنها المرشد الإيراني، ويقود الأوركسترا لها نوري المالكي، ويعزف الناي الحزين فالح الفياض في تلك الفرقة، دون الخلاص من الأحقاد والعقد التاريخية والشرور داخل نفوس الكثير منهم.

الأسبوع المنصرم ذهب ثلاثون قتيلا، وأصيب أكثر من 600 شخص في مواجهات دامية، نشبت بين أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، وقوات الحشد الشعبي. الخلاف بين الجناحين الشيعيين يفرضة المشهد السياسي في العراق المنقسم على نفسه. معلوم أن هذا طرف يرفض التغلغل الإيراني في البلاد، ويملك مشروعاً إصلاحياً، يبدأ بمحاسبة الفاسدين السابقين منهم والحاليين، وينتهي عند حدود المساواة بين أطياف المجتمع دون تفرقة بين سني أو شيعي أو كردي أو أزيدي، وغير ذلك من الطوائف.

وذاك آخر لا يملك أدنى فكرة سياسية ممنهجة، إنما يعيش على الإملاءات التي تصدر له من طهران، ويستقوي بالسلاح خارج نطاق الدولة، ويسعى للسيطرة على مؤسساتها، على المستوى الشخصي أميل للمشروع الصدري لعدة أسباب، أهمها أنه يميل لنطاقه العربي، وهذا مبرر أتصور أنه يدفع للاقتناع بالمبادئ الصدرية.

أجزم أن أحد أسباب النبذ الإيراني للصدر الزعيم الشيعي «الأكثر براجماتيمة»، هو الجزء العروبي من فكره ومنهجه السياسي. يرى الرجل الذي تحمل سخونة الرياح التي لفحته بمجرد فتحه باب الإصلاح، الذي يؤسس لاستقلال بلاده الجريحة، أن العراق – وهذا ليس خياراً إنما تحتمه الظروف التاريخية – من مصلحته العودة للحضن العربي، وأن الورقة التي تسوق لها الجمهورية الإسلامية بعيداً عن كونها بخسة الثمن، فهي تسعى لتحويل الدولة إلى تابعة لطهران بشكل علني، كما هي التجربة اللبنانية، التي يقودها حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله، الذي حول لبنان إلى إحدى المحافظات الإيرانية، وباتت تأتمر بأمر المرشد، ويجاهر بذلك، دون أدنى ردة فعل من اللبنانيين الأقحاح؛ ممن يملكون الغيرة الوطنية التي تفترض رفض تفريغ الدولة من عروبتها ولبنانيتها وتحويلها إلى جزء من إيران.

وفي المقابل فالحشد الشعبي المناهض، لكل من يريد إعادة الدولة إلى محيطها ووضعها الطبيعي؛ لمن يعرف تفاصيل نشأته، فيتكون من مجاميع شيعية أنشأتها إيران نسخة مشابهة للحرس الثوري، ومع الوقت تحول إلى قوة ضاربة توازي قوى الدولة. وعلى هذا الأساس يمكن للمتابع للشأن العراقي أن يستشعر الصراع والصدام بين الحشد ووزارة الدفاع. فالوزارة كجهة سيادية ترفض ضم ودمج قوات يؤسس قوامها مجموعة من شذاذ الآفاق، ممن حملوا السلاح على أساس طائفي. وهذا بالمناسبة حق من حقوقها، كجهة تمارس العمل الدفاعي بعيداً عن السياسة، بشكل مشروع وقانوني، تستند على العقيدة التي يملكها الجيش العراقي، أو لا يزال يحتفظ بالحد الأدنى منها.

وما يدلل على هذه الرؤية، توجيه وزير الدفاع العراقي جمعة عناد في مايو الماضي، سهام نقده لقوات الحشد، بعد أن اعتقلت القوات المسلحة القيادي قاسم مصلح، وتسبب ذلك بفوضى عارمة في بغداد. حينها قال «كيف لمجاميع تحملهم أربعون عربة غير مدرعة، أن تقف أمام جيش يملك قوات يمكنها محاربة دولة». وفي حديث الوزير حجرٌ يحرك كثيرا من المياه الراكدة،. ويمكن اعتبار ذلك اعترافا رسميا، بأن الحشد قوة يجب تفكيكها، لا منحها مزيدا من فرص الحياة، للإيمان بأنه ما تمارسه تلك القوات في شكله اللطيف «تبعية»؛ لكنه في الحقيقة «خيانة».

أتفهم أن الرجل – أي وزير الدفاع - لم يستطع بلوغ هذا المستوى من الصراحة نظير ما يمليه عليه المنصب، لكن يستنتج من ذلك أن ثمة ثقة بأن ما يخالجه يدور حول الحقيقة السابق ذكرها. والسؤال المباشر؛ لماذا لم يتم دمج الحشد الشعبي مع أي من القوات الرسمية التابعة للدولة، سواء الخاصة بوزارة الدفاع أو القوى الأمنية؟. أعتقد أنه لو انخرط الحشد الشعبي في قوى الدولة، لتحول العراق إلى غابة لا يحكمها قانون، ويصبح ذلك عدوى قد تصاب بها الكتائب الشيعية الأخرى المنفلتة. وإن تم ذلك سيتحول إرهاب تلك الميليشيات إلى إرهاب رسمي، يستفيد من الغطاء الحكومي، والأهم أنه سيحقق اختراقا إيرانيا غير مسبوق للقوى العسكرية بعد السياسية، التي تمكنت من السيطرة عليها عقب خروج القوات الأمريكية من الأراضي العراقية.

إن البيان الذي أدلى به وزير الصدر عقب أحداث المنطقة الخضراء، ينبئ عن مخاوف يدركها التيار الصدري، ولم يجرؤ غيره على ذكرها، لحساسية المشهد العراقي، الذي بدأ سياسياً، وانتهى إلى حرب شوارع. فقد احتوى البيان على عدد من النقاط ذات الخطورة، والتي يتم ذكرها للمرة الأولى؛ كالقول بأنه يجب إبعاد قوات الحشد عن المنافذ الحدودية، بسبب استخدام تلك القوات للعنف والتجارة والتهريب، والخروج عن الصمت يعني تململا من أتباع إيران، من قادة العنف الشيعي المقدس، كنوري المالكي، وفالح الفياض، وغيرهما من الأذناب.

العراق يشهد كتابة نهاية التاريخ لمرحلة مضت.

وصراع الإخوة قادم لا محالة.

اعتزل الصدر العمل السياسي؛ رفضاً للامتثال لمرجعية المرشد الإيراني.

لكنه سيستميت هو وقليل من العقلاء من وراء ستار، لإصلاح العراق..

ولو بجرّة إذن.