في ذاكرة الوجدان زهور أليفة ببهجتها وحميمية طفولتها العفوية، تربينا على صـوت الراديو، وكان يجمعنا في الأمـسـيـات، إذ كـانت الإذاعة المسموعة هي تلفاز وجريدة وهاتف القرى النائية عن المدن، وتربت ذائقتنا السمعية آنذاك على برنامج «الأرض الطيبة» و«أبناؤنا في الخارج» لبدر كريم، و«البيت السعيد» بمقدمته «التشايكوفيسكية» الخالدة.

وكانت الأغاني المذاعة بين الفقرات.. تبني في بنائيتنا.. نوعًا من التربية «الذائقية» بقيت فينا بتلقائية مهذبة صحيحة، وقت إذ كان للفن الغنائي من يحترمه بأصوله المتجذرة في المجتمع لأنها تأخذ منه وتعطيـه.. لم يأت «الأورج» حتى يقطع شـخـصـيـة الـعـود والقانون والمزمار والإيقاع البـدوي.. كان الفنان الحـقـيـقي والصـوت المؤدي الجميل «طلال مداح» واحدًا من أولئك الـجـمـيـلين الذين أسسوا فينا تجاوبًا بديهيا ناصعًا بأغانيه الأولى المحبوبة.

«وردك يا زارع الورد» «طل القمر محـلاه» «سويعات الأصيل» «لا.. لا يالخيزرانة»، «شـفـت أبها»، وغيرها من الـعـديد من تلك المرحلة.

وبقينا ننمو مع الصوت الذي يكاد يخرج من وجداننا وينفر من حلوقنا ومن عظام مفاصلنا بزفرته وأنته ومواله الشجي باللهفة والحلم. الصوت الذي يدخل القلب والضلوع دونما استئذان، ودون أن يدق الأبواب.. إذ كانت أبواب البيوت في القرية مشرعة، والنفوس مشرعة، والوجدانيات مشرعة والخضرة تترع بها الحقول والمدرجات ومواقع المياه، وكان الورد في أول المواسم الربيعية.. هو زهرنا المحبب بينوعه ، وذكاء نفحته السحرية الخاصة،مرتبطة بـ «الشيح، والكادي، والريحان، والبـعـيـثـران، ونباتات عطرية فواحة أخرى»، وأشياء كثيرة لم نعرف قيمتها إلا فيما بعـد، بـعـد أن عـرفـنـا كم هو صـوت «طلال مداح» الـشـجـي مـتـوغل النشـأة بأنسجتنا.

هل كـان صـوت «طلال» مـحـبـوبًا بحكم النشأة!

إن في التفسير لانجذاب الإنسان إلی موسیقی أو صوت محدد نوعين. فنحن نطرب للموسيقى والصوت بسبب يتعلق بارتباطه بالفن الشعبي، أي ذلك الذي لم يخرج عن مظلة الإنتاج الذائقي الاجتماعي، ايقاعًا وترديدًا، وهذا موجـود في صـوت «طلال» جملة وتفصيلًا.

إنه صوت الأرض، والأرض – كما نعلم - بإنسانها.

وثاني انجذابات الإنسان للأغنية، هو ارتباطها بالذكرى الخاصة، أي الذكرى المتعلقة بالشخصية الفردية غالبًا، وهي انجذابة قد تكون في الإطار الجـمـاعـي أو الفردي لكنها تختلف بسبب ذكراها وذاكرتها الشخصية.

الفن الغنائي الذي ينحدر أو ينبثق عن الذائقة الاجتماعية/ الشعبية، هو فن يميل إليه الإنسان في كل مكان حتى ولو لم يفهم لغته.. لذلك ليس غريبًا أن نرى من يتجاوب مع أغنية مثل «يا سارية» ممن هو خارج اللغة والمكان، لماذا؟

لأنها أتت في أساسها من ذائقة اجتماعية، «طلال» كان ناجحًا في طربه وفنه، وذلك بأصالة مرجعيته التربوية الذائقية الطربية.

الفنان الموهوب البسيط الجميل كجمال الوردة «طلال مداح» لم يستلف موهبته من أحد، ولم يلمع شخصيته الغنائية بزخارف الآخرين، أنه معلم كبير في مدرسة أنشأها بصـدقـه وشجاعته وانتمائه لأرضه وإنسانهما.. العفوي التلقائي.. الصوت المحبوب الذي علمنا منذ صغر معرفتنا أن يكون لنا معنى في قياسات الفن الغنائي الأصيل ، الأصيل في عـمـقـه الشـعـبي، وتطريبه للموال، الأصيل النابع من نسيج الوجدان المهذب، إنـه كـالمقاس الموزون حيث يؤكد للإحساس أن يعتبر الغنائيات الأخرى مقبولة أو غير مقبولة للانسجام والتفاعل.

جلسات «طلال» البسيطة الشامخة تبقى معنا في حقائب سفرنا تؤنس غربتنا وتحبب في دواخلنا الأهل والوطن والإنسان والذكريات والتذوق الوجداني وتصور الحبيب، وطريقة مشاغبة الذاتي الفنية، فاذا تمول «طلال» تفسح بخضرته وينوعة صوته في تصوراتنا الحميمة.

«هبت علينا من رياح الروض رائحة

عند الغروب عرفناها برياك»

من كان سيعلم بقيمة الكلمة المؤثرة اليانعة، وقد كان يقرؤها في صـفـحـة الديوان فـلا يذكـرهـا لـ «الشريف الرضي» أو «الشافعي»، أو «عـمـر بن أبي ربيعة» أو غيرهم.. لولا أنها مـرت على صـوت «طلال» الـعـمـيـق الـعـسـجـدي، وكيف كانت تتطاير الفراشات بألوانها المبهجة من أنغام عوده المتميز المعروف!

كيف لنا أن ترتوي مـسـامـعـنا ووجداننا بالمقام «الـحـجـازي» المتـفـرع بايقاعاته ومـجـسـاته.. بأطراقه.. وتـنـوعـاته.. دون أن يصوت «طلال».. «فما أمرك في قلبي وأحلاك»..

وماذا أذكر لأذكر ورصيده القديم إلى «طفلة تحت المطر» موجود بكنائزه في فتافيت حياتنا! ماذا أذكر و«زمان الصمت» في تكسر أصواتنا وجريان الدم في عروقنا؟

أسعدت الناس وأنست ذاكرتهم ووجدانهم وبقيت باقات ورد يتـبـادلـهـا الأحـبـة يـا طلال.. لك الاحـتـرام والحب، لك الامتنان والوفاء.. أيها السجل الذهبي الجميل.

1994*

* روائي وكاتب صحافي سعودي «1955- 2000».