حتى الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر كان النمو الاقتصادي والتقدم الثقافي في أوروبا يؤلفان كلاً واحداً غير قابل للافتراق. فقد كان القطاع الثاني، الحرفي قبل أن يكون صناعياً، يتقدم حيثما ترتفع نسبة المتعلمين. وهذا التطابق في النموين يفصح عن نفسه بجلاء في العصور الوسطى. فالمناطق الكبرى للصناعة النسيجية في القرن الثالث عشر، لا سيما في إيطاليا الشمالية والوسطى وفي فلاندرا، كانت تؤلف جزءاً من العالم النامي ثقافياً. كما أن تطور ألمانيا في مجال الصناعتين التعدينية والنسيجية ترافق بانفجار ثقافي تولدت عنه مباشرة حركة الإصلاح البروتستانتي. وقد كانت خريطة المطبعة في نهاية القرن الخامس عشر تتطابق مع خريطة التقدم الصناعي والتقدم الثقافي على حد سواء. فانتشار المطبعة كان مرتهناً بارتفاع معدل المتعلمين وبتقدم الصناعة التعدينية. وكان يفترض بالطباعين كما بالمستهلكين أن يتقنوا القراءة، مثلما كانت صناعة الصب تتطلب إتقاناً لتقنيات المزج.

ظل التطابق قائماً بعد الثورة اللوثرية. فالدول البروتستانتية الأوروبية الشمالية مثل إنجلترا والسويد وهولندا سجلت تقدماً ثقافياً واقتصادياً معاً. فحيثما ارتفع معدل المتعلمين تطورت الصناعة الحرفية الإنجليزية أو الهولندية وزاد إنتاج السويد وإنجلترا من المنتجات الحديدية. وبالمقابل، فإن أفول إيطاليا الثقافي في الحقبة نفسها ترافق بأفول اقتصادي: فتجميد عملية نشر التعليم تطابق مع ترییف للاقتصاد الإيطالي وخدر في دينامية القطاع الثاني أو المديني. والواقع أن هذا التوازن بين المظهرين الاقتصادي والثقافي للتقدم لا يدعو إلى العجب. فالقطاع الثاني يقوم أساساً على تقنيات تحويل المادة، وهذه التقنيات هي من إنتاج العقل البشري. وكان طبيعياً، من ثم، أن تتطور حيثما أثبت العقل البشري فاعلية وانفتاحاً على التغير.

ولكن في الفترة التالية، بين 1750 و1850، حدث افتراق بين الحركة الثقافية والتطور الاقتصادي. فالثورة الصناعية الإنجليزية عكست اتجاه المسار، وتبوأت مكانة الصدارة في أوروبا الأمة الإنجليزية التي لم تكن أكثر الأمم تقدماً من وجهة النظر الثقافية. فإنجلترا، بدون أن تكون أمية تماماً، كانت تأتي في المرتبة الثانية، بعد السويد وألمانيا وسويسرا، في معدلات نشر التعليم. ولكن ما مر قرن واحد على الثورة الصناعية حتى كانت صورة إنجلترا قد تغيرت جذرياً: فمنذ 1850 كان 55% من سكانها قد أمسوا مدينيين، كما أن نسبة اليد العاملة في الزراعة قد تراجعت إلى 22% مقابل 46% للعاملين في القطاع الثاني. وفي الحقبة نفسها، كان لا يزال أغلب سكان ألمانيا وفرنسا والسويد من الريفيين و75% و88% على التوالي.

هذا التحول جعل من بريطانيا منذ ذلك الحين قوة اقتصادية عظمى. فموقع بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر كان أعظم حتى من موقع الولايات المتحدة الأمريكية في قلب القرن العشرين. فرغم أن سكانها ما كانوا يشكلون سوی 2.2% من سكان العالم، كانت تنتج 53% من حـديـد الـعـالم و49% من نسيجه. في حين أن سكان ألمانيا والسويد وسويسرا كانوا هم الذين يتقنون القراءة والكتابة. والواقع أن هذا الطلاق بين الثقافي والاقتصادي هو ما أنجب على الصعيد النظري المادية التاريخية. فماركس وإنغلز شادا نموذجهما التفسيري من فلسفة الأنوار على أساس الاستقلال الذاتي للواقعة الاقتصادية.

فعلى الضد التي كانت ترى في تقدم العقل شرطاً مسبقاً لتقدم الاقتصاد، وجدا في تقدم بريطانيا الصناعي دليلاً على العكس. فتطور التكنولوجيا الإنجليزية بين 1710 و1790 أتاح إمكانية تطور اقتصادي في سياق ركود ثقافي نسبي. بل إن الآلات التي اخترعها المهندسون البريطانيون من أجل إنتاج الفولاذ والطاقة (الفحم) ومن أجل تحويل القطن والصوف والكتان إلى خيوط نسيجية، اقتضت تكوين طبقة عاملة ضخمة بدون أن تقتضي ارتفاعاً ملموساً في مستواها الثقافي. فمهام البروليتاريا النسيجية بسيطة وتكرارية ولا تستلزم قدرة مسبقة على ممارسة القراءة والكتابة.

وقد كان لا بد من انتظار تعميم الثورة الصناعية وانتقالها إلى أقطار أوروبية أخرى كيما يعاود الثقافي والاقتصادي اتصالهما. وسويسرا هي التي قدمت نموذجاً أو منطقاً ثانياً للإقلاع الاقتصادي. فقد قام اقتصادها على استيراد الخيط البريطاني وعلى استخدامه في صناعة نسيجية متطورة ومتخصصة.

وبالإضافة إلى الحياكة الفنية طورت سويسرا صناعة ميكانيكية للساعات وللآلات الدقيقة نظيرا لها في إنجلترا. وبنية الصناعة السويسرية هذه كانت تقتضي طبقة عاملة ماهرة ومتعلمة ومتخصصة، وهذا على عكس الصناعة الإنجليزية التي كانت تتطلب أيدي عاملة غير متخصصة، ومنقولة مباشرة من الأرياف لتحويلها إلى بروليتاريا نسيجية غير ماهرة. وفي هذا الطور الثاني من الثورة الصناعية، الذي عم بعد سويسرا السويد وألمانيا وبلجيكا، أمسى دور التقنية والعلم أساسياً، واقترن التحول الكمي للسكان من ريفيين إلى مدينيين بتحول كيفي شهد انفجاراً حقيقياً في التقنيات وتعقيداً في التكنولوجيا وتحولاً موازياً في العقليات التي باتت مهيأة لتقبل التغير اللامتناهي.

في هذا الطور الثاني من الثورة الصناعية لم تعد البروليتاريا تلك الكتلة الصماء والفظة التي تصفها أدبيات القرن التاسع عشر. وصحيح أن تكميم الطبقات العاملة قد تواصل في جميع بلدان أوروبا الغربية التي اجتازت عتبة الـ 50% في نسبة السكان المدينيين، ولكن هذا التكميم ترافق بتكييف على صعيد التعلم والقدرة على هضم التكنولوجيات.

وفي هذا الطور الثاني عادت ألمانيا ـ ومعها السويد ـ تسبق إنجلترا: فبنيتها الثقافية التحتية كانت تؤهلها أكثر من إنجلترا للقيام بعبء الثورة الصناعية الثانية. وابتداء من الأعوام 1870 - 1880 يمكن القول إن خريطة التقدم الصناعي قد عادت تتطابق مع خريطة التقدم الثقافي. وهذا التطابق استمر مع بعض الشذوذ هنا وهناك، إلى نهاية القرن العشرين.

1996*

* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016».