قبل الحديث عن من هم النخب الصوتية لا بد أن أسرد شيئا بسيطا عن هذا المفهوم الذي لا بد من التطرق إليه، لأنه في اعتقادي ذو مغزى كبير وعميق. يحصر هارولد لازويل Harold Lasswell مفهوم النخبة في المجال السياسي، وبين أن دراسة السياسة هي دراسة التأثير والمؤثرين، والمؤثرون هم الذين يحصلون على معظم ما يمكن الحصول عليه فيطلق عليهم مسمى النخبة، أما الآخرون فهم العامة، وذلك يعني التمايز في توزيع التأثير والقوة في المجتمع، لصالح النخبة الذين يشاركون في وضع وتنفيذ السياسات، وبذلك تستمد النخبة سيطرتها على الجمهور -وهو الأغلبية- من تميزهم بارتفاع مستوى التعليم والكفاءة والمعرفة والخبرة. كذلك نجد أن النخبة ليست حصرا على مجال معين دون مجالات مختلفة، مثل النخبة الثقافية والتعليمية والاقتصادية، فقد تكون النُّخبة مزيجًا من كل هذه الشرائح الاجتماعية، وهي في النهاية تقوم على فكرة التمايز، كما بينها باريتو في تفسيره للجمهور والنخب. لكن ما يميز النخبة أنها تستطيع أن تقدم شيئا للمجتمع، وأن تقوده نحو أمر تتميز فيه وبكفاءة عالية ومشاريع نهضوية وتقدمية، وتؤثر في صنع القرار للمجتمع أو القيادات. كذلك ما يميز النخب قدرتها على تقدير المواقف الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والجماهيرية، وتحليلها بشيء من العقلانية والمنطق. ولكن في وقتنا الراهن وجدنا النخب الصوتية، وهو ما أردت الحديث عنه، وهم من يصنفون أنفسهم على أنهم من النخب الثقافية والفكرية بالأخص، ولا يتعدى دورهم الحقيقي استجلاب التاريخ والشخصيات التي لها تاريخ وذكرها وسردها بقوالب وأساليب مختلفة، وتوظيفها لمقاصدهم ونياتهم الملتوية، فهؤلاء أشبه بكتاب صوتي ليس إلا ومرجعا تاريخيا مبتورا، يحاول أن يكون مسرحًا لأحداث تاريخية ومخرجًا لتلك الأعمال بلسانه ومنطقه. كذلك نجد أن بعض هذه النخب الصوتية تعمل على انتقاد التاريخ دون العمل على الحاضر وكأنه أسير الماضي أو محام لأحداث وشخصيات تاريخية، قال الله تعالى (تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). كما أنها تركز على الصراعات وتكوين جماهير وشعوب مستنفرة غير مستقرة، وتحاول شيطنة الدول والحكومات، وتبحث عن منصات إعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. أعلم أن مثل هذا الطرح قد لا يروق للبعض، لكن لا بد أن نعي أن النخب الثقافية والفكرية هي التي تبني مشاريع استراتيجية ذات رؤية معرفية، تبنى فيها الأجيال، ويطور خلالها المجتمع، وتتطور الدول، أما السرد التاريخي فهو يستند عليها لكنه لا يعمل به بالكلية، لأنه ابن ساعته وفي ظروفه التاريخية التي حصلت. النخب الثقافية أو الفكرية الصوتية لم تستطع أن تواكب الواقع الاجتماعي، ولم تستطع أن تتجاوب مع مقتضيات النهوض الحضاري لشعبها وللجماهير التي آمنت بها، وإنما مالت إلى صناعة الضجيج، لأنها لا تملك رؤية أو فهما للواقع كما هو.