بسرور كبير وفرح غامر يعيش السعوديون هذه الأيام فرحة كبرى بمناسبة اليوم الوطني 92 لبلادهم، ويسترجعون تلك اللحظات الفارقة التي أعلنت ميلاد دولتهم، عندما اجتمع عدد من أبناء هذه البلاد المباركة، وانضووا تحت راية قائدهم المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي أخذ على عاتقه مهمة توحيد الديار، ونذر نفسه لتحقيق تلك الغاية، ولم يدخر وسعا في سبيل تحقيقها، حتى أتم الله له الأمر وأكمله على يديه، وتم إعلان المملكة العربية السعودية دولة مستقلة ذات سيادة في صباح يوم الحادي والعشرين من جمادى الأولى 1351هـ.

لم يكن ما حدث مجرد إعلان دولة جديدة، أو توحيدها، بل كان أكبر من ذلك بكثير، لأنه كان حدثا غير اعتيادي أعاد تشكيل الخارطة السياسية، ليس في الدولة الوليدة فحسب بل في كافة دول المنطقة، وأسهم بصورة فعّالة في تحقيق الإضافة الإيجابية، لأسباب عديدة في مقدمتها أن تلك الدولة استطاعت في فترة وجيزة أن تكون إحدى أكثر الدول تأثيرا في العالم، لأنها تحتضن الحرمين الشريفين وتحظى بمكانة روحية ودينية مقدسة في نفوس ما يزيد على مليار ونصف المليار مسلم، إضافة إلى اكتشاف النفط الذي يمثل حجر الزاوية للاقتصاد العالمي.

لم تكن ملحمة التوحيد سهلة ميسورة، بل كانت عبارة عن امتحان بالغ الصعوبة ومليء بالتعقيدات، لكن أولئك الكرام استطاعوا بمنتهى الجدارة أن يجتازوه لأنهم تسلحوا بالإيمان، وتمتعوا بالقوة والصدق مع الله أولا ثم مع شعبهم الذي كان دوما نصب أعينهم.

ولأن الأوضاع في شبه الجزيرة العربية كانت مزرية، وكان الفقر يعشش في جوانبها، والفوضى والاضطرابات وعدم توفر الأمن أبرز ملامحها، فقد تداعى الأخيار من كافة أنحاء البلاد وانضموا لركب الملك الصالح الذي عاهد الله على أن يبسط العدل ويحفظ الأمن، فقاد أنصاره متسلحا بعزيمة لا تلين وإرادة لا تقهر وإيمان بالله لا ينقطع، فكان التوفيق حليفه والنجاح رفيقه. واكتملت المهمة في زمن قياسي وجيز.

بمجرد إعلان ميلاد الدولة الجديدة بدأ الجزء الثاني من الملحمة، والذي كان هو التحدي الحقيقي، وهو الإعمار والبناء وبسط الأمن والاستقرار. فرفع الملك عبدالعزيز شعار الحق والعدل والمساواة بين أبناء البلاد جميعهم، دون تغليب لأي اعتبارات مناطقية أو عرقية أو مذهبية، فتباروا في خدمة وطنهم، وأعلنوا الولاء التام والطاعة الكاملة لولاة أمرهم.

بعد وفاة الملك عبدالعزيز تسلم أبناؤه البررة الراية من بعده وساروا على ذات دربه واحتفظوا بالقيم الفاضلة التي رباهم عليها والدهم، وقطعوا أشواطا كبيرة في مسيرة النماء والنهضة، وساهم كل منهم بقدر كبير فيما وصلت إليه البلاد من مكانة سامية ومرتبة رفيعة بين الأمم، ووضع بصمته في سجل الإنجاز وكتب اسمه بأحرف من نور في تاريخ بلاد الحرمين الشريفين.

انتقلت الراية عام 2015 إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي بدأ عهدا جديدا من التنمية والنماء والازدهار في كافة جوانب الحياة، وللحقيقة والإنصاف فإن ما شهدته وتشهده المملكة خلال هذه السنين يمثل فصلا جديدا في تاريخها المضيء، حيث لم تقتصر النهضة والتطور على جانب دون آخر، بل شملت جميع المجالات.

فعلى الصعيد السياسي تبوأت المملكة مكانة رفيعة وسامية، واقتحمت مجموعة العشرين التي تضم أكبر 20 دولة في العالم من حيث المكانة السياسية والاقتصادية، وأصبحت محطة رئيسية في صناعة القرار العالمي والإقليمي لا يمكن تجاوزها.

وفي مجال الاقتصاد حققت نجاحات لافتة ويكفي للتأكيد عليها تلك المشاريع العملاقة وغير المسبوقة التي يتم تنفيذها في كافة المناطق والمدن، وهو ما أدى بالمؤسسات المالية العالمية إلى تصنيفها كأكثر الدول نموا في العالم خلال العام الجاري، مع توقعات إيجابية بمواصلة هذا التقدم خلال السنوات المقبلة. وكذلك شملت مسيرة التطوير الجوانب الاجتماعية والثقافية والرياضية وكافة الجوانب.

أما أكبر المجالات التي شملتها يد الإصلاح والتغيير فهي الجانب القانوني حيث تشهد السعودية نهضة تشريعية متكاملة أسفرت عن استكمال النواقص وتطوير الموجود وسن تشريعات جديدة، إضافة إلى انضمام المملكة للكثير من المعاهدات والمواثيق الدولية، حتى أصبحت في طليعة الدول التي تصنف بأنها دول مؤسسية وقانونية، وباتت تمتلك منظومة تشريعية متطورة نالت الإشادة من أكبر المنظمات القانونية العريقة. كل ذلك لأجل مواكبة المرحلة الحالية التي تعيشها واستيفاء متطلباتها.

ولأن مثل هذه المساحة لن تكفي بالتأكيد لحصر الإنجازات والمكاسب، فإنني أشدد مرة أخرى على ضرورة الاستفادة من هذه المناسبة في تقوية اللحمة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية، والتلاحم مع تلك القيادة الرشيدة التي أنعم بها الله تعالى على بلادنا، ولن يتحقق ذلك إلا بإظهار الولاء والطاعة كحقيقة على الأرض، فهذا الوطن الذي أكرمنا به الله تعالى يستحق منا الكثير، وينتظر منا أن نتحول إلى معاول بناء تسهم في ترقيته وتطويره ونمائه.

التهنئة أرفعها إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – وللشعب السعودي النبيل، سائلا إياه عز وجل أن ينعم على قيادتنا بالصحة والعافية، وعلى بلادنا بدوام الرفعة والتطور، وأن يعيد علينا هذه المناسبة السعيدة وبلاد الحرمين تواصل السير في طريق الرفعة والازدهار وينعم شعبها الكريم بالأمن والاستقرار.