هناك اتهامات للمثقف بأنه يعيش في برج عاجي قد حصر نفسه فيه ويتحدث منه، أو أن المثقفين يحدثون بعضهم بعضًا، ومنهم من يتهمهم بالعزلة والتعالي، إلى غير ذلك من الاتهامات الممجوجة، ولم تكن هذه لتظهر لولا عملية المقارنات التي بدأت مع الواعظ أولاً في فترة الثمانينيات والتسعينيات في وقت صعود الصحوة، ثم ازدادت بشكل كبير مع مشهور السوشال ميديا في هذه الفترة، فهذه الاتهامات لم تكن تسمع قبل ثلاثين عامًا أو أكثر رغم مزاحمة الواعظ، ورغم أن لغة المثقف آنذاك غائصة بصورة أكبر مما هي عليه الآن - كما يتضح ذلك من الكتب والمقالات في تلك الفترة - ومع ذلك لم يكن كبار المفكرين العرب يُتهمون بذلك.

وسبب زيادة هذه المقارنة مع أولئك المشاهير هو أن كلًا من المثقف والمشهور يتبنى خطابًا مدنيًا - بخلاف الوعظ فهو ديني ولذا تقل المقارنة به - ومع هذا الخطاب المدني الذي يتداخل في كثير من مواضيعه مع مواضيع المثقف ، ومع اللغة الشعبية التي يتحدث بها هؤلاء المشاهير بدأت هذه المقارنة تزداد مما نتج عنه تلك الاتهامات.. فبدلًا من أن يقيّم المشاهير بمعيار الثقافة والفكر أصبحت الثقافة تقيم بمعيار الشهرة والجماهيرية، بل ويطلب من المثقف النزول من برجه كما يرددون ليصبح شعبيًا مثلهم.

إن الثقافة الفكرية التي تحتوي على التنظير نخبوية بطبيعتها وقد تكون غير مفهومة لأنها تخصصية كأي تخصص علمي، فالطبيب حينما يتحدث قد يكون كلامه غير مفهوم بخلاف الطبيب الشعبي، فهل نقول إنه نافسه أو أفضل منه ونطالب الطبيب بالنزول للشارع؟ وخبير الطقس الشعبي أفضل جماهيريًا وشعبيًا من الخبير العلمي فهل نطلب منه التحدث بشعبية؟ وقس على ذلك كافة التخصصات.. ولو كانت الثقافة بطبيعتها شعبية لما أصبح للمثقف قيمة علمية وفكرية فلا بد من شيء من الصعوبة وفي الوقت نفسه لا بد من تبسيط المعلومة أو الفكر، فإذا كان جميع ما يطرحه المثقف بسيطًا أصبح متحدثًا شعبيًا، وإذا أصبح جميعه غير مفهوم أصبح بلا رسالة فالتوسط هو المطلوب، فالانتقادات التي كانت وما زالت توجّه للواعظ هو أنه يتحدث بشعبية متجاهلًا العلم الشرعي نفسه الذي يتبناه.. فهل يراد للمثقف أن يكون واعظًا مدنيًا؟ وفهم الناس للمشاهير أو لطرحهم ليس وسيلة تقييم ولا يمكن أن يقدموا عليه.. وهذا كله على افتراض أن ذلك المشهور ذو خطاب مدني، أما إذا كان بلا خطاب وإنما مشهور استعراض لا غير فهنا يزداد العجب من مقارنته بالمثقف، فبعضهم يعتبره أكثر مهارة منه لأنه وصل للجماهير .