وفقًا للمصادر الرسمية للأمم المتحدة من المتوقع أن يتجاوز عدد سكان العالم 8 مليارات نسمة في عام 2022، حيث يعيش نصفهم في سبع دول فقط، وعليه نجد أن مسألة كيفية إطعام الجميع وكسوتهم وتعليمهم وتوظيفهم هي مشكلة تم تناولها على نطاق واسع منذ أواخر القرن الماضي، فغالبًا ما يتكرر طرح قضية الزيادة السكانية وكيفية استخدام مواردنا المحدودة في عالم متنامٍ على منابر المؤتمرات الدولية، إضافة إلى ذلك يثير الاتجاه السكاني مخاوف عديدة منها: هل ستستمر البشرية في الازدهار إذا تجاوز عدد السكان عدد الوظائف المتاحة؟

ماذا عن التكنولوجيا التي تخرج لنا كل يوم بمنتج أو ابتكار جديد يلغي مساقات مهن بأكملها؟ بمعنى أنه يمكن اليوم إكمال مهمة كانت تتطلب أيدٍ متعددة بضغطة زر!

ثم إذا تم حذف أو التخلص من معظم الوظائف بسبب هذه التكنولوجيا، فمن أو ما الذي سيدعم الاقتصاد؟

هل ستصبح قطاعات كبيرة من السكان تحت خط الفقر أم أن طبقة المليارديرات ستدعمهم وتصبح المسيطرة؟

حقًا كيف سيعمل الناس ويتفاعلون مع بعضهم البعض في عالم لا يكاد أحد يعمل فيه؟! وهل يمكن للفرد تطوير مهارات التعامل مع الآخرين عندما لا تكون هناك حاجة لمتابعة علاقات العمل خارج نطاق دائرة حياته؟

بينما تدور التساؤلات السابقة حول الجوانب المادية، نجد أن هنالك من تطرق للتداعيات النفسية، وأشهرهم الدكتور جون كالهون الذي كان باحثًا في المعهد الوطني للصحة العقلية، فقد أجرى ما يقارب 100 تجربة ما بين عامي 1968 و1970على الفئران لدراسة أثر الزيادة السكانية على السلوك، لقد أعتقد أن تجاربه لها صلة مباشرة بفهم الضغوط والاختلالات المجتمعية التي تقلق وتزعج سكان البيئات المدنية.

جهز الدكتور كالهون بيئة مثالية «يوتوبيا» للفئران وبدأ بــ «أربعة أزوج»، حيث وفرت لهم الإمدادات غير المحدودة من الطعام والماء والقش داخل بيئة خالية من الأمراض بدرجة حرارة مناسبة وتنظيف دوري ومنظم، بمعنى أن كل شيء كان موفرًا إلا المساحة، حيث كان المكان يتسع فقط لثلاثة آلاف فأر.

الآن من المعروف عن الفئران أنهم مخلوقات اجتماعية لديها توزيع أدوار وتسلسل هرمي، هذا بالضبط ما أراد الدكتور كالهون التأثير عليه ودراسته، وقسم نتائج ملاحظاته إلى أربع مراحل: «الكفاح، الاستغلال، التوازن، والموت»: في المرحلة الأولى تم الاعتياد على البيئة الجديدة، ومن ثم بدء إنشاء وتحديد المناطق، وفي المرحلة الثانية تضاعف العدد كل 60 يومًا، حتى وصل التعداد إلى 5000 تقريبًا، وفي المرحلة الثالثة بدأت الأدوار الاجتماعية في الانهيار بسبب محدودية المساحة وتناقص فرص الأدوار، كما بدأت أعمال العنف العشوائية تظهر، وتخلى الكثير من الذكور عن المحاولة للعثور على الإناث وظهرت سلوكيات عدوانية شرسة وعشوائية وأخرى شاذة، وتم الهجوم على الإناث وقتل الصغار، وخرجت الإناث للدفاع وتحولت إلى متوحشة حتى أنها أصبحت تهمل بل تعتدي أيضًا على صغارها، وهنا ظهر نوع جديد وصل إلى مرحلة النضوج دون أن يتعرف إلى الأبوة أو يتعرض إلى العلاقات الطبيعية الصحية، ومع عدم وجود مفهوم للتزاوج أو الأبوة أو معرفة كيفية تحديد مساحاته، تراجع إلى الزوايا ونادرًا مع كان يغامر بالخروج، جلّ اهتماماته كان النوم والأكل والشرب والاعتناء بالذات «التبرج»، كما اتسم بالغباء إلى حد ما، واختفى عند هذا النوع الاهتمام بالإناث وظهر التركيز على الشذوذ، أطلق كالهون على هؤلاء المنعزلين النرجسيين لقب «الجميلون The beautiful ones»، أما في المرحلة الأخيرة، بدأ عدد السكان بالتراجع حيث لم تعد هنالك أي ولادات جديدة بسبب العدوانية العشوائية والشذوذ، وفي اليوم 600 انتهت التجربة بموت آخر فأر.

بالرغم من إيمان كالهون بقدرة الإنسان على تعدي مشكلة الغذاء، كان ينذر من مشكلة السلوك الإنساني في ظل اختفاء الوظائف وسيطرة التكنولوجيا، والانكماش الهائل للمساحات، فالإنسان يميل إلى السلوك العدواني والغريب عند التعرض للضغوط، فأي تعطيل أو اختلال في التنظيم الاجتماعي سيكون ذا تأثير سلبي على الناس، وبعد فترة العدوانية سوف يظهر لنا نوعية من البشر مثل «الجميلون»!

في الدراسات التي اهتمت بالسلوك الإنساني في التجمعات المدنية الكثيفة، خاصة بعد ما تم هدم الأحياء الفقيرة وبني مكانها الأبراج الشاهقة، ظهر تقاطع النتائج مع أبحاث كالهون الخاصة بعلاقة النمو السكاني والانخفاض في المعايير السلوكية في ظل ظروف الكثافة الاجتماعية المرتفعة؛ ففي البيئة السكانية الكثيفة، عكس السلوك الإنساني انحرافات مشابهة لتلك التي ظهرت في تجمعات الفئران: فرط الجنس والشذوذ، إهمال الأطفال وإساءة معاملتهم، العنف الزائد والعشوائي!

بالطبع هنالك من اختلف معه، وهنالك من استخدم نتائجه لدق ناقوس الخطر بالنسبة للتزايد السكاني، بينما أثارت نتائج تجاربه اهتمام علماء الهندسة البيئية وهندسة المدن وحتى هندسة المكاتب، ودفعتهم للحرص على توفير مجال التوسع ليس فقط على مستوى المساحة وتأمين الخاصية للفرد للتواصل الصحي والتوازن النفسي، بل أيضًا على مستوى فرص العمل والتنمية البشرية، لأن الأدوار لها أهمية في النظام الاجتماعي وأي خلل في ذلك سوف يؤثر على البناء الاجتماعي ويسهم في تدهوره.

واليوم في ظل التغييرات التي تحدث على البيئات السكانية ليس محليًا بل عالميًا، نحن متفائلين لأنه بالرغم من الحروب والأوبئة والتعديات وحتى الهمجية، ما زال الإنسان قادرًا على تخطي التحديات، لأن البشرية لديها ما يكفي من الإبداع والقدرة بإذن الله على تجنب مرحلة «الموت» التي وصلت إليها تجربة كالهون، نحن بالطبع نؤمن بيوم القيامة حيث تنتهي البشرية ويبدأ يوم الحساب، ولكن هذا لا يعني أن ندمر أنفسنا بأيدينا، ولهذا يجب أن نكون حذرين في عمليات التخطيط والتنفيذ للمجمعات السكنية والفرص الوظيفية أو المهنية، خاصة في ظل الحياة العصرية التي سادت فيها النرجسية، وطغى حب الظهور والمادية على العلاقات الإنسانية، فنحن بالتأكيد لا نريد أن نصل إلى مرحلة تكاثر وسيادة ( الجميلون)!