سيكون ديوان «أبو البحر جعفر بن محمد الخطي» الذي علق عليه علي بن الحسين الهاشمي، وقدم لطبعته وراجعها محمد رضا نصر الله متاحا لزوار معرض الرياض الدولي للكتاب والذي يفتتح اليوم ويستمر حتى 8 أكتوبر 2022، وهو من إصدارات دار سطور.

قصيدة السبيطية

يتناول نصر نص قصيدة السبيطية للخطي في التحليل والتشريح، وهي تقول في أبياتها:

بِرغمِ العَوَالِي والمُهَنَّدَةِ البُتْرِ

بِرغمِ العَوَالِي والمُهَنَّدَةِ البُتْرِ

دِمَاءٌ أَرَاقَتْهَا سُبَيْطِيَّةُ البَحْرِ

أَلاَ قَدْ جَرَى بَحْرُ البِلادِ وتُوبِلِي

عَلَيَّ بِما ضَاقَتْ بِهِ سَاحَةُ البَرِّ

فَويلٌ بَنِي شَنِّ بنِ أفصى وما الذي

رَمَتهُمْ بِهِ أيْدِي الحَوادِثِ من وتْرِ

دَمٌ لمْ يُرَقْ من عَهْدِ نُوحٍ ولا جَرَى

علَى حَدِّ نَابٍ للعَدُوِّ ولا ظُفْرِ

تَحامَتْهُ أَطْرَافُ القَنَا وتَعَرَّضَتْ

لَهُ الحُوتُ يا بُؤْسَ الحَوَادِثِ والدَّهْرِ

لَعَمْرُ أبِي الأيَّامِ إنْ بَاءَ صَرْفُهَا

بِثَارِ امرئٍ مِنْ كُلِّ صَالحةٍ مُثْرِي

فَلا غَرْوَ فالأيَّامُ بَينَ صُرُوفِهَا

وبينَ ذَوِي الأخْطَارِ حَربٌ إلى الحَشْرِ

أَلاَ أبْلِغُوا الحَيين بَكْرًا وتَغْلبًا

فَمَا الغَوثُ إلاَّ عِندَ تَغْلبَ أو بَكْرِ

أَيُرضِيكُمَا أنَّ امرًا مِنْ بنِيكُمَا

وأَيَّ امرئٍ يُدْعَى إلى الخَيرِ والشَّرِّ

يُرَاقُ علَى غَيرِ الظُّبَا دَمُ وَجْهِهِ

ويَجرِي علَى غَيرِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ

وتَنْبو نُيوبُ اللَّيثِ عَنهُ ويَنْثَنِي

أخُو الحُوتِ عَنهُ دَاميَ الفَمِ والثَّغْرِ

لِيَقْضِ امرؤٌ مِنْ قِصَّتِي عَجَبًا فَمَنْ

يرِدْ شَرحَ هَذا الحَال يَنْظُرْ إلى شِعْرِي

أنَا الرَّجُلُ المَشْهُورُ ما مِنْ مَحلَّةٍ

مِنَ الأرْضِ إلاّ قد تخلَّلَهَا ذِكرِي

فإنْ أُمْسِ في قُطْرٍ من الأرْضِ إنَّ لِي

بَريدَ اشْتِهَارٍ في مَنَاكِبِهَا يَسْرِي

تَوَلَّعَ بِي صرْفُ القَضَاءِ ولَمْ يَكُنْ

لِتَجرِي صُرُوفُ الدَّهْرِ إلاّ علَى الحُرِّ

تَوَجهْتُ مِن مِرِّي ضُحَىً فَكَأنَّمَا

توَجَّهتُ من مِرِّي إلى العَلْقَمِ المُرِّ

تَلَجْلَجْتُ خُورَ القَرْيَتَينِ مُشَمِّرًا

وشِبْلِي مَعِي والماءُ في أوَّلِ الجَزْرِ

فَمَا هُوَ إلاّ أن فُجِئْتُ بِطَافِرٍ

مِنَ الحُوتِ في وَجْهِي ولا ضَرْبةَ الفِهْرِ

لَقَدْ شَقَّ يُمْنَى وَجْنَتَيَّ بِنَطْحَةٍ

وقَعتُ لَهَا دَامِي المُحَيَّا علَى قِطْرِي

فَخُيِّلَ لِي أنَّ السَّمواتِ أطْبِقَتْ

عَليَّ وأَبْصَرتُ الكَوَاكِبَ في الظُّهْرِ

وقُمْتُ كهَدْيٍ نَدَّ من يَدِ ذَابِحٍ

وقد بَلَغتْ سِكِّينُهُ ثَغْرةَ النَّحْرِ

يُطَوِّحُني نَزْفُ الدِّمَاءِ كأنَّنِي

نَزيفُ طِلَى مَالَتْ بِهِ نَشْوَةُ الخَمْرِ

فَمَنْ لامرئٍ لا يَلْبَسُ الوَشْيَ قَد غَدَا

ورَاحَ موَشَّى الجَيْبِ بالنُّقَطِ الحُمْرِ

وَوَافَيْتُ بَيتِي ما رَآنِي امْرؤٌ ولَمْ

يَقُلْ أو هَذَا جَاءَ من مُلْتقَى الكرِّ

فَهَا هُوَ قدْ ألقَى بوَجهِي عَلاَمَةً

كَمَا اعتَرَضَتْ في الطِّرسِ إعْرابَةُ الكَسْرِ

فَإنْ يَمْحُ شَيئًا من مُحَيَّايَ أثرُهَا

بِمقْدَارِ أخذِ المَحْوِ من صَفْحَةِ البَدْرِ

فَلاَ غَرْوَ فالبِيْضُ الرِّقَاقُ أَدَلُّهَا

علَى العِتْقِ ما لاَحتْ بِهِ سِمَةُ الأَثْرِ

وَقُلْ بَعْدَ هَذَا للسُّبيْطيَّةِ افْخَرِي

علَى سَائِرِ الشُّجْعَانِ بالفتْكَةِ البِكْرِ

وقُلْ للظُّبَا فِيئِي إلَيْكِ عَن الطُّلَى

وللسُّمْرِ لا تَهزُزْنَ يَومًا إلى صَدْرِ

فَلَوْ هَمَّ غَيرُ الحُوتِ بِي لتَوَاثَبَتْ

رِجَالٌ يَخُوضُونَ الحِمَامَ إلى نَصْرِي

فَإمَّا إذَا ما عَزَّ ذَاكَ ولَمْ يكُنْ

لأُدْرِكَ ثَارِي مِنهُ ما مُدَّ في عُمْرِي

فَلسْتُ بِمَوْلَى الشِّعْرِ إنْ لَمْ أَزُجُّهُ

بِكُلِّ شَرُودِ الذِّكْرِ أعدَى من العرِّ

أَضَرُّ عَلَى الأجْفَانِ من حَادِثِ العَمَى

وَأَبْلَى علَى الآذَانِ من عَارِضِ الوَقْرِ

يُخَافُ علَى من يَركَبُ البَحْرَ شَرُّهَا

ولَيسَ بِمَأمُونٍ علَى سَالِكِ البَرِّ

تَجُوسُ خِلالَ البَحْرِ تَطْفَحُ تَارَةً

وتَرْسُو رُسَوَّ الغَيصِ في طَلَب الدُّرِّ

تَنَاولُ مِنهُ ما تَعَالَى بِسَبْحِهِ

وتُدْرِكُ دُونَ القَعْرِ مُبْتَدرَ القَعْرِ

لَعَمْرُ أبِي الخطِيِّ إنْ بَاتَ ثَارُهُ

لدَى غَيرِ كُفْوٍ وهوَ نَادرةُ العَصْرِ

فَثَارُ عَليٍّ بَاتَ عِنْدَ ابنِ مُلْجَمٍ

وأعقَبَهُ ثَارُ الحُسَينِ لَدَى شِمْرِ

من شعراء القطيف

كان محمد رضا نصر اللـه قد ألقى محاضرة في 13 مايو 1987 بدعوة من جمعية الثقافة والفنون في الغرفة التجارية الصناعية في الدمام، وقال فيها:

ما هي اللغة التي لا تحيل إلى شيء خارجها؟

يجيب (تزيفتان تودوروف): إنها اللغة المختزلة إلى ماديتها فحسب، إلى أصوات وأحرف، إنها اللغة التي ترفض المعنى.

السنيا تصبح الأصوات موضوع انتباه، إنها تكشف عن قيمتها المستقلة (1).

وهنا أَبْتُرُ سِياقَ هذه المقولة النقدية لأقتحم وإياكم هذا النص الشعري الذي نقرؤه هذه الليلة.

بادئ ذي بدء.. نجد أن القراءة الأولية لـهذا النص تستوقفنا فيها مجموعة من الأصوات الحادة، والملامح النافرة، في هذا الجسد اللغوي.. منطوية في منظومات دلالية ثلاث تتحدد فيما يلي:

الأولى: منظومة البحر.

الثانية: منظومة الحرب.

الثالثة: منظومة الدم.

إن لكل منظومة أسرة معرفية، ولغوية دلالية تشكل في النهاية عالم النص. وتبرز في الحقل الواضح للوعي.. كما يقول (تودوروف) مستكملًا جملته المبتورة تلك -ذلك أن قراءتنا لمجمل الدلالات- الآتي ذكرها - في إطار النص الموضوعي... توقفنا أمام تشكيلة متلاحمة من المدلولات ضمن بنية جدلية تَتَرَكَّبُ -ماديًا وتاريخيًا وإنسانيًا- في رؤية شعرية جمالية لـها خصوصيتها التاريخية وقوانينها الفنية وإطارها المعرفي.

إن العلاقة الجدلية التي يطرحها هذا الناقد الشكلاني (تودوروف) بين مفردات النص البارزة وبين الحقل الواضح للوعي هي مصادرة للقراءة النقدية المغلقة، إذ (لا توجد العلامات خارج مجتمع مَّا، مهما كان عدد الأفراد ضئيلًا)، وما هذا الاهتمام (الميتافيزيقي) بتفسير النص تفسيرًا إشاريًا إلا تعبير عن (أزمة سببها نفاد المواضيع الفكرية التقليدية).. ذلك أن استعمال الإشارة في عملية التواصل لا يتم إلا ضمن عمل اجتماعي).

ومن هنا فإننا سوف نقوم بقلب صيغة السؤال الذي طرحه (تودوروف) ونحن نقرأ نص شاعرنا الخطي.. ليكون على هذه الصيغة..

على أي شيء يحيل إليه هذا النص في الخارج؟

إن هذا السؤال يشكل هاجسًا (استراتيجيًا) جماليًا سـنجده ينفجر كلما واصلنا قراءتنا لـ(السُّبَيطية) وهو بطبيعة الحال يواجه القراءة التقليدية، التي تبعثر هذا النص إلى موضوع شعري يقوم على حكاية عادية، أو حدث مألوف كان يتعرض لـه كل إنسان عاش في هذه المنطقة الغارقة في البحر.

رحلة البحر

يكمل نصر الله، لقد كان مأْلوفًا وطبيعيًا أن يركب البحر من أجل الصيد أو الغوص.. أو الانتقال من مكان إلى آخر.. وهذا بالضبط ما حدث للشاعر حين رافقه ابنه عابرًا (البحر من محلـه قرية (كتكان توبلي) قاصدًا قرية (بوبهان) وذلك حالة الجزر ولما توسط معظم الماء وثب بعض السمك واسمه السبيطي نافرًا في وجهه، فشق وجنته اليمنـى فنظم هذه القصيدة الغراء سنة (1019 للهجرة) كما يقول راويته الفنوي.

غير أنني سأتجاوز عن هذا منساقًا وراء (تودوروف) في نظرته إلى اللغة المختزلة التي لا تحيل إلى معنى، بل تختزلـه إلى أصوات وأحرف.. منطلقًا من ذلك -في البداية- بالتركيز على مظهر النص الحسيِّ: إن هذا سيجعلنا قريبين من استخدامات الشاعر للغة في هذا النص.. وما إذا كانت تعبيرًا انحرافيًا عن السياق الشعري السائد في عصر الشاعر الذي كان ينوء بإعاقات موضوعية وفنية عرفها الدارسون في ظاهرة أدب عصر الانحطاط الذي ران على المنطقة العربية منذ سقوط بغداد تحت سنابك التتار سنة (656 للهجرة) حتى قيام معركة الاستعمار الحديث في القرن العاشر الـهجري ليمارس دورًا آخر أشد خطورة وفداحة في إعاقة المجتمع العربي الإسلامي إعاقة حضارية مركبة.

تتكون تلك المنظومات الدلالية الثلاثة من مفردات أي علامات ذات طابع تكراري مما يشير إلى شخصية لغوية في النص.

المنظومة الأولى: وتتشكل من الدلالات التالية:

السبيطية البحر، بحر البلاد، الحوت، خور الماء، الجزر، طافر، راكب البحر، الطفح، الرسو، الغيص، الدر، السباحة، القعر.

المنظومة الثانية: وتتشكل من الدلالات التالية: العوالي، المهنَّدة، البتر، حرب، الغوث، المثقفة السمر، نيوب الليث، ضربة الفهر، نطحة الكر، الشجعان، الفتكة البكر، اْلحُمَام، النصر، الثأر.

المنظومة الثالثة: وتتشكل من الدلالات التالية: دم، يراق، أطرف، القنا، دامي الفم، الذبح، السكين، نزيف الدماء، النقط الحمر.

* * هذه المفردات التي تكون محاور النص، نستطيع تركيبها في معادلات موضوعية، لتأخذ المنظومة الأولى عالَمَ البحر أو الوطن، وتأخذ المنظومة الثانية عالم الحرب أو الاستعمار، أما المنظومة الثالثة فتأخذ عالم الإنسان.

وسوف يبلور لنا سياق هذه القراءة كيف تتشكل هذه المنظومات الدلالية في بناء رؤية الشاعر في هذا النص.. الذي كان من أبرز انحرافاته عن سياق مرحلته الشعرية - أنه نصٌّ واحد يتنامى فَنيًا وموضوعيًا نموًا يثور على تعددية الأغراض التي عرفتها القصيدة التقليدية.

وبعد ذلك فإن مجموع هذه الدلالات السطحية تشير إلى مدلولات عميقة غائبة!! كأنَّ الشاعر قد قرر عن إرادة فنية واعية عدم الإفصاح عنها... لأسباب سوف تتضح لنا.

فهو -كما سبق القول- يقوم بصياغة نصه الشعري، ساكبًا في نسقه تفاصيل حدث محدد، يتمحور حول إصابته بضربة شقت يمنى وجنتيه - ولا ضربة الفهر! - وهو يخوض بحر البلاد بين (توبلي) و(بوبهان) في البحرين... حين فاجأه طافر من الحوت.

إن هذا الحدث العاديَّ يأخذ في نفسية الشاعر وأدائه الشعري بُعْدًا (خياليًا) يوهمنا، ويظللنا بانتصار السمكة على الإنسان -على غير العادة- في زمن ومكان جعلا الإنسان قادرًا على التحكم بأهوال البحر وموارده.. بأسماكه ولآلئه، فكيف بالشاعر -هنا- ينهزم أمام ضربة (سبيطية)؟.

توسيع الدائرة

يواصل نصر الله، إن الشاعر يوسع من دائرة التعبير الشعري عن حدث عادي، بل إنه يُحَمِّلـه ما لا طاقة باللغة الشعرية السائدة في عصره، راسمًا أجواء مهولة ومفزعة، تتقاطر منها الدماء.. حتى كأنه يشير إلى حقيقة موضوعية أكبر من الشعر نفسه!

إن صروف الأيام، أو القضاء -كما يؤكد الشاعر- تحامَتْهُ، وأطراف القنا تعرضتْ لـه، فيا بُؤْسَ الحوادث والدهر الذي جعلـه يركب البحر ليضربه طافر من الحوت. وأين؟ في وجهه!! هكذا يجرد هذا الطافر الذي ضربه في مكان يرمز إلى كرامته واعتزازه.. ويحيلـه إلى قوة كونية يختزلـها الشاعر في سمكة شهية المأكل!! أهكذا تنظر الشعوب الصغيرة إلى مستعمريها المتحضرين، الآتين من وراء البحار!! وتأخذ هذه القوة الكونية في تشكل شعري متعدد. فتارة تأتي على هيئة أطراف القنا -كما في البيت الخامس- وهي تحيط بالشاعر الذي يؤكد على وحدته في القصيدة دون أن يشير إلى أيِّ دور مضادٍّ قام به هو نفسه، أو حاولـه ابنه (حسان) الذي كان معه في هذه المحنة، وكأن هذا الاستلاب الذاتي والاجتماعي الذي يسقطه الشاعر على محنته هو ما كانت تعانيه المجتمعات الزراعية في المنطقة أمام فلول البادية التي كانت تكتسح الأخضر واليابس دونما رادع مدني!! حتى أصبحت الأحساء والقطيف آنذاك - مجالًا حيويًا خصبًا لنزاعات قَبَلِيَّة متصارعة، وقد أشار الشاعر أو رَاوِيَتُهُ إلى ذلك في رثائه لأحد شباب القطيف - الذي كان أبوه قبل وفاته قد وقعت عليه اللصوص ونهبوه وأثخنوه جراحًا وبقي في البادية مطروحًا بين الأحساء والقطيف وذلك سنة (1022 للهجرة).

إن هذه الحادثة تتصل بمجموعة من الدلالات، وردت في عدد من قصائد الشاعر، تشير إلى واقع سياسي واقتصادي مضطرب.. يتضح أحيانًا في مواقف شعرية صارخة. يقول - وقد فر من وطنه، متشوقًا إلى ربوعه:

وَلَعِنْدي عَلَى الوُقوفِ بِهَا

تِيكَ النَّواحِي وتلكم الأبوابِ

مثل ما عند ذِي المخافة للأمـ

ـنِ وما عِنْد ذِي الصَّدَى للشراب

وتتكامل الصورة المخيفة حين يشتد نشاط الإقطاع في بلده نشاطًا يجعل الشاعر على هامش الحياة، فهو يستهدي أحد أصدقائه شيئًا من التمر:

لَكَ اللَّه بَيْتٌ أقفرتْ حُجُراتُهُ

مِنَ التمرِ يَسْتهدِيْكَ شيئًا مِنَ التَّمْرِ

وفي نص آخر يقول: إنه لا يملك في بيته حبة شنبة.. وهو من أردأ أنواع الأرز -وقتذاك- وما البؤس الذي يشير إليه الشاعر في البيت السادس من (السبيطية) إلا نتيجة لهذا النهب الداخلي الذي يجعله وهو يمدح وزير البحرين ركن الدين محمود بن نور الدين بن شرف الدين يقول: إنه -أي الوزير- «يقتاد من أملاكها ما شاء» [6].

علاقات متبادلة

يكمل نصر الله، إن الشاعر هنا يشير إلى شبكة العلاقات التاريخية المتبادلة بين النهب الداخلي الإقطاعي والنهب الخارجي الاستعماري، التي كان يقوم عليها النظام الاجتماعي المختل في وطنه، فالوزير ذلك لم يكن سوى والٍ تركي، والذي كان لا يستقر في مكانه لفترة.. حتى يتحالف الاستعمار البرتغالي مع الشاه عباس الصفوي ليحكم البحرين أمير فارسي، ليمد نفوذه إلى القطيف، ضمن معاهدة يكتبها الطرفان لمواجهة الأتراك الذين يعاركون الصفويين في تلك الفترة. وقد يحكم قائد حملة برتغالي المنطقة كما حدث لـ (ألفونسو دي أنورونها) وما أن يثور عليه الأهالي حتى يعمل السيف في الرقاب.

إن ثمة قوة كونية تكبر في (خيال) الشاعر.. فإذا (صروف القضاء التي جرت على الحر) كما يقول في (السبيطية) تأتي على هيئة استعمار عالمي مدجج ودموي، حمل البرتغاليين إلى حواضر الخليج العربي ووطن الشاعر في القطيف ليعيثوا فسادًا وقتْلًا وحَرْقًا ونهبًا.

إنه شيء كبير جدًا، لا يتصوره عقل بشر، ولا يخطر على هاجس شاعر، ولا تستوعبه لغة جبانة كاللغة الشعرية في زمن الشاعر.. حين انطلقت بواخر البرتغاليين سنة (1406 للميلاد) من (لشبونة) مرورًا بـ(ماليندي) على الشاطئ الشرقي للقارة الإفريقية.. ومن هناك يدلـهم البحار العربي ابن جلفار (أحمد بن ماجد) على طريق التجارة العالمي الذي يصل الهند بـأوربا.. ثم ترتد الحملة البرتغالية إلى شواطئ الخليج العربي بقيادة البوكيرك سنة (1507 للميلاد).

وحينما وصل البرتغاليون إلى المنطقة بهدف اقتحام مملكة هرمز من أيدي بعض القبائل.. فإنهم يواصلون غزوهم إلى البحرين والقطيف سنة (1521) بعدما سيطروا على مسقط وقلـهات وخورفَكَّان وصحار، وتتحرك المقاومة الشعبية إثر ذلك في المنطقة، ويتحدد يوم 30 نوفمبر (1521) يومًا للثورة على الاستعمار البرتغالي في كل مراكز الخليج العربي.. وتم إحراق المراكب البرتغالية، وقتل الحامية البرتغالية في هرمز، وقامت بقية المراكز التجارية العربية بتنفيذ المهمة المتفق عليها.

انتفاضة أخرى

يسترسل نصر الله، في سنة 933 للهجرة قامت انتفاضة أخرى ورغم حركات القمع الشديدة التي مارسها البرتغاليون ضد أبناء الخليج إلا أنهم لم ييأسوا ولم يركنوا إلى الاستسلام أو الضعف ففي سنة (936هـ/1529م) قام أهالي البحرين بانتفاضة ضد السيطرة البرتغالية، ولم يكفَّ أهالي الخليج العربي.. ففي سنة 994 حاول البرتغاليون شَنَّ حملة بحرية على (نخيلوه) التي تقع على ساحل الخليج العربي، ولكنهم وقبل أن يصلوا إلى الساحل ظهر أهل (نخيلوه) على حين غرة وأوقعوا بالبرتغاليين الـهزيمة.

لقد كانت حركات المقاومة الشعبية هذه - التي وصلت إلى مسامع شاعرنا دون شك - ردَّ فعل وطني ضد ما قام به الاستعمار البرتغالي العسكري من مجازر ومذابح بشعة، لم يستطع المؤرخون ذوو النزعة العنصرية الاستعمارية من أمثال (مايلز) إلا إدانتها.. إن واحدا مثل (سوزا) يصف -بنوع من التباهي- وحشية البرتغاليين بعد المعركة فيذكر كيف أن الجنود البرتغاليين كانوا يصطادون جثث المسلمين التي طفت على سطح الماء، لنهب حليهم الذهبية التي يرتدونها، أما (مايلز) فإن كتابه «الخليج.. بلدانه وقبائلـه» يشير -ضمن إشارات المؤرخين- إلى دم مراق.. دم يصبغ البحر. ويحاصر الأفق.. وكان ذلك طبيعيًا والبرتغاليون يختارون لمعاركهم وغزواتهم البحر مجالًا حربيًا. فصاروا.. كما يعبر النهرَوَالي - صاحب «البرق اليماني في الفتح العثماني»: (يقطعون الطريق على المسلمين أسرًا ونهبًا.. ويأخذون كل سفينة غصبًا).

حمرة البحر

يتابع نصر الله، لقد أفزعت الشاعر حمرة البحر القانية.. التي تراءت لـه، والسبيطية تضربه لينزف دمًا لم يرق من عهد نوح.. هكذا ليس بصورة (فانتازية) كما نتخيل. وإنما هو واقع حي ترسب في الذاكرة الشعبية، لتنفجر في قريحة شاعرنا الخطي، فقد كان البرتغاليون -كما أجمع المؤرخون- يقومون حتى في حالة استسلام الأهالي وإخلاء المواقع، بحرق المدن ودك الحصون، وهدم المساجد وجَدْع الأنوف وصلم الآذان وقطع الرقاب. (إنهم يقومون بالقتال والإبادة دون تمييز بين النساء والرجال والأطفال، إضافة إلى النهب والسلب وحرق المنشآت والمنازل، وحرق السفن، والاستيلاء على الأسلحة من السيوف والسهام والأقواس).

إن وضْعَنَا البيتَ الثاني والعشرين من قصيدة (السبيطية) في هذا الإطار يجعلنا نتحسس مدى الرعب الذي كان يسيطر على أبناء المنطقة. وإلا ما الذي يجعل مواطنًا قطيفيًا أو عُمَانيًا أو بحرانيًا يعبر البحر من مكان إلى آخر -وقد تعود على ذلك في حياته - فتضربه (سبيطية) ليقوم:

كهديّ ندَّ من يَدِ ذَابح

وقد بلغت سكينُةُ ثَغرةَ النحر

وحين يطرحه نزف الدماء من جراء ذلك لا ينسى أن يستعيد في تلك اللحظة علاقة الاستبداد والنهب والذبح الاستعماري بالنهب الداخلي.. ويتساءل بحس (درامي) شعري، ساخر ومر.. نافذ وذكي.. عن امرئ لا يلبس الوشي كيف غدا موشى الجيب ولكن بالنقط الحمر؟! بالدم الذي كان مراقًا من دم البسطاء.. هذه هي قضية الشاعر الأساسية - كما تمليها شواهد أخرى في عدد من قصائده - وتتخطى دلالة الدم عند الشاعر.. إلى الثأر.. في نهاية القصيدة.. وهو ثأر مقموع تاريخيًا لكنه ينفجر في زمن الشاعر، وكأنه يجمل القضية في البيت الأخير.. يجعلـها قضية صراع طبقي فكري، أوجده الاستعمار الحديث منذ بداية وصولـه إلى منطقة الخليج العربي في القرن السادس عشر الميلادي.. وذلك قبل بروز الدول القومية في المنطقة.

وإن الأتراك حين جاءوا إلى المنطقة بعد ذلك أكدوا على هذه التركيبة السياسية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ضمن السياق الإقطاعي منذ مجيئهم سنة (957هـ/1550م) حين أعلن أهالي القطيف تبعيتهم للدولة العثمانية احتماءً بهم من السيطرة البرتغالية.

تداخل النصوص

(في مثل هذه الرهبة، وفي هذا البحر المتلاطم الأمواج ولد شاعرنا أبو البحر ولسانه معقود من السيف المسلول على رأسه، وقلبه يزحف فرقًا من أن يلمح ولو تلميحًا إلى حالة عصره السياسية).

هكذا يعبر خالد الفرج.

واقع سياسي

لكن ماذا عن الواقع السياسي الذي عاشه شاعرنا؟

يصف خالد الفرج هذا الواقع الممزق إقليميًا في المنطقة ويؤكد على وجود ملتزمين من أعيان العرب يؤدون الإيالة إلى الاستعمار البرتغالي.. غير أن الأتراك حين احتلوا القطيف، انتهجوا سياسة غير عادلة مما اضطر أمراء القطيف من آل المقلد إلى الفرار إلى البحرين وكان في مقدمتهم زعيمهم عبداللـه بن مقلد الذي ترك القطيف مع جماعة من أشرافها لأمر هناك!! كما يعبر الخطي أو شارح ديوانه في مقدمة رثائه لـه:

وأقسم لولا موته في فراشه

لجردت البيض المهندة البتر

وأَزْعَشَتِ الملدُ المثقفة السمرُ

وأقبلتِ الخيْلُ المسوَّمةُ الشَّقْرُ

عليهن من آل المقلد غلمة

مَسَاعِيرُ حَرْبٍ لا يَضِيْعُ لَهُمُ وَتْرُ

تُثَقِّفُ مُنْآدَ الرِّماحِ أكُفُّهُمْ

وتمنحُها طولًا إذا شانها قصْرُ

كأنهم والسابغات عليهم

إذا ما دجى ليل الوغا أنجم زهر

واقع ثقافي

يصف عبداللـه الجشي الواقع الثقافي لعصر الشاعر أنه، عرف انتعاشًا في الحياة الفكرية، وبرز عدد من العلماء المبرزين في العلوم العقلية والفلسفية الدينية وغيرها.

ويترجم مؤلف «أنوار البدرين» لعدد من أبرز هؤلاء العلماء، بيد أن هذا لا يعني أن هذا الفكر والأدب كانا ينسجمان وتطلعات الإنسان العربي في الحرية والإبداع والإضافة الحضارية. فالثابت أن المنطقة العربية الإسلامية عرفت -آنذاك- ركودًا عامًا مظلمًا بعد سقوط بغداد، مما نتج عنه اهتزاز حاد في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان سببًا في انهيار مشروع الحضارة العربية الإسلامية، الذي تناثر في وحدات إقليمية غير ثابتة. ما جعل طابَعَ الصراع داميًا بين إقليم وآخر، وبين قبيلة وأختها.. وبين طائفة وأخرى.. وقد غدا النشاط الإقطاعي هو الأكثر بروزًا.. خصوصًا بعدما نشرت الخلافة العثمانية سيطرتها على ما تبقى من الخلافة الإسلامية العباسية.

في هذا الجو الموبوء بالحروب والدماء والقمع والمطامع السياسية والطبقية خمدت روح الإبداع في العقل العربي.. وسقط الشعر تحت سنابك البديع والصنعة، وتقليد الأولين تقليدًا استرجاعيًا تكراريًا ميتًا، لا إضافة فيه.. حتى غدا هذا الوضع الثقافي السلوكي نمطًا معرفيًا متداولًا لا يجرؤ أحد على المساس به، أو تغييره وإعادة قراءته.. وكان الشعر بحكم طبيعته اللغوية وخصائصه الفنية وكيميائيته التاريخية عصيًا على التغيير السريع.. والاقتحام المباشر. ولذلك لم يكن يتجاوز وضعيته التقليدية هذه كل من أراد تحقيق مشروعية أدبية انتهازية.

لقد كان هذا سببًا رئيسًا في حدوث القطيعة بين الشعر والواقع، وبين الشاعر واستيعابه الواعي لحركة التاريخ المتطورة.. مما جعل بعض الدارسين يقفون -اليوم- مدهوشين أمام غياب النص الإبداعي الاختراقي للواقع والمجتمع واللغة والتراث. وقد اندفع ياسين الأيوبي في دراسته عن صفي الدين الحلي - وهو من النماذج الشعرية البارزة في عصر الانحطاط العربي - مؤكدًا عدم وجود نصوص شعرية تعبر عن البيئة الحضارية العربية المنهارة. وقد فات هذا الباحث أن المجتمعات الإنسانية مهما أصيبت من نكسات فإنها لا بد وأن تَتَصَدَّى لـها عبر صيغ عدة بارزة ومختفية.. تأتي في لحظات تاريخية متمردة على القيود والظروف والإعاقة.. صحيح أن المجتمع العربي تعرض لهجمات خارجية شرسة وصراعات طبقية داخلية.. غدا لهذه الأسباب مشغولًا بمواجهة محاولات الفتك به والسيطرة على روحه ومقدراته... عن مواصلة مشروعه الحضاري والفكري والإبداعي.. غير أن هناك نقائض موضوعية نبعت من داخل هذه الظاهرة التاريخية المهشمة.. نراها -تبرز مرة- في العلامة ابن خلدون كمفكر اجتماعي، وتاريخي مرموق الرأي.. وتارة تتفجر في موهبة ركن الدين الوهراني، مؤلف «المنامات» بأدب سياسي صارخ وجارح لتركيبة السلطة السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الدولة الأيوبية.

أما على الصعيد الشعري فإنني -شخصيًا- لم أقع على نصوص حاولت التمرد على النمط الشعري الثابت في تلك الفترة المظلمة.. مثلما وجدته في شعر الخطي.. هذا الذي حاول اختراق التقليدي بزخارف بلاغية فارغة. اختراقًا متمردًا.. مغامرًا وجريئًا.. معبرًا بذلك عن درجة حرمان اقتصادي، وفقر فكري واغتراب سياسي شديد الوقع.. إن هذا جعل الشاعر ينطوي على حس تاريخي ناضج.. وثقافة فنية وشعرية واستيعاب للموروث الشعري العربي الذي حاول إعادة إنتاجه في شعره منذ وقت مبكر، مما يجعلنا نعيد النظر في الاحتفاء التاريخي بالدور الاسترجاعي الذي قام به البارودي في عصر النهضة العربية بـمصر.

عصور متداخلة

يكمل الجشي، إن قراءتنا لنص الخطي يجعلنا أمام إشكالية جديدة، فهي تضعنا أمام عصور شعرية متداخلة.. يقوم خلالـها نَصُّ الخطيِّ بإزاحة صوت شعري أموي -مثلًا- وإحلال صوت شعري عباسي.. يزاوج بين ديباجة جاهلية بفنية أبي تمام، لكن هذا لا يقضي على طبيعته الانفجارية لأنه حين يتفاعل مع غيره من النصوص، وينتمي إلى مجال تناصي.. فإنك لا تجد ثمة أبوة فنية مسيطرة.. ليس هناك نموذج شعري محدد يحتذى لأنَّ مفهوم التناص يقضي عليه، إن (الأنا) التي تتعامل مع النص ليست موضوعًا غفلًا إزاءه، كما يقول (رولان بارت) لأن (الأنا) التي تقترب من النص هي في الواقع مجموعة متعددة من النصوص الأخرى، ذات (شفرات) لا نهائية، وبالأحرى فاقدة الأصول قد ضاعت مصادرها، كذلك (فالنص عادة ينطوي على مستويات (أركيولوجية) مختلفة، على عصور ترسبت فيه تناصيًا الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه)، عبر جدلية النفي والإثبات هذه، نواجه في نص الخطي -أو قل نصوصه- أصواتًا شعرية من مراحل شعرية متفاوتة.. تبدأ من امرئ القيس حتى صفي الدين الحلي.. غير أنه يقف عند شاعرين اثنين هما أبو نواس وأبو تمام، وقوفًا انبهاريًا، لكن ذلك لا يقضي على صوته الشعري المنفرد.

فالقصيدة الأولى من الديوان يكتبها بروح نواسية:

وشابها نطفة من فيه صافية

كالراح فهي من الصهباء صهباء

لَحَا على شربها قومٌ وما علموا

يا ويحهم إن ذاك اللوم إغراء

ساء الذين نهوا عن شربها ولقد

شُرَّابها أحسنوا صنعًا وما ساؤوا

ويتذكر ذا الرمة وهو يرثي عبدالقاهر بن عبدالرؤوف الحسيني في صدر هذا البيت، ويزيحه في عجزه ليثبت نفسه:

(ما بال عين لا تجود بمائها) والنفس قد طويت على غمائها

ونلتقي بصوت المتنبي وعمر بن أبي ربيعة في بيتين متواليين من قصيدته التي بدايتها:

ألا هل تجاوزت لخِبَاءَ المُحَجَّبَا

بحيث طباء الإنْسِ تحجبها الضُّبَا

وجزت على حي بمنعرج اللوى

فاهديت مرجوع التحية زينبا

ويقفز إلى أبي محجن في صدر الإسلام ليهيم بخمرته التي لم يذقها:

سأشربها حيًا وإن مت فانضحي

ثراي بها يروي صداي رويتِ

ويتغزل ولكن على خطى عمر بن أبي ربيعة:

يثني المُلِمُّ بِهَا عَنْ ضَمِّ قامتِها

حُقَّان في الصدْرِ من عاج نقيانِ

ويمدح وزير البحرين ركن الدين محمود بن نور الدين ابن شرف الدين بأسلوب أبي تمام الذي يجمع عددًا من الصفات والتشبيهات في بيت واحد:

كسروي العدالة اسكندري الـ

ـفتح والعزم رستمي الكفاح

أحنف الحكم أكتم الرأي زبير الثأر

قسُّ البيان كعب السماح

بل إنه ينسى وهو يعيد إنتاج شعر أبي تمام أن بيتًا مثل هذا البيت هو لأبي تمام وليس له:

ألم ترَ أنَّ الشمسَ زِيْدَتْ مَحَبَّةً

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

ويثور على عمود الشعر العربي -كما فعل أبو نواس- مستغربًا من بلاهة أولئك الواقفين على الأطلال بلا جدوى:

ماذا يفيدك من سؤال الأربع؟

وهي التي إن خوطبت لم تسمعِ

سَفَهٌ وقوفك في رسوم رثة

عجماء لا تدري الكلام ولا تعي

فَذَرِ الوقوفَ على محاني منزل

عاف لمختلف الرياح الأربع

وأمسك عنان الدمع عن جريانه

في دمنة لا تحمدنك ومَرْبَع

إن تداخل النصوص في شعر الخطي لـه قيمة تاريخية باعتبار المرحلة التي عاش فيها.. ففي القرن العاشر الـهجري عاشت مظاهر شعرية فقدت حرارة التعبير وبهاء الشعر.. ومن يقرأ في الموسوعات الأدبية التي سجلت أبرز نصوص تلك الفترة.. ومن بينها «سلافة العصر» لابن معصوم فإنه سيجد صيغًا شعرية باردة وموضوعات تافهة.. لا تتعدى التغزل بالغلمان، واستخدام القواعد النحوية في تراكيب شعرية لاهِية يعبر عنها أصدق تعبير أحد شعراء تلك الفترة إبراهيم بن حمد الأحسائي الحنفي الذي يقول:

ولا تك في الدنيا مضافًا وكن بها

مضافًا إليه إن قَدِرْتَ عليهِ

فكلُّ مضاف للعوامل عُرضة

وقد خُصَّ بالخفضِ المضافُ إليهِ

استنزاف طاقة

يسترسل الجشي، لقد استنزف شعراء عصر الانحطاط طاقة البلاغة العربية استنزافًا جعل من فنونها البديعية والبيانية هياكل فارغة في أشعارهم.

لـهذا نجد الخطي ينطوي على حس تاريخي يخترق زمنه ليتصل بمنابع القصيدة العربية التراثية.. محاولًا تكوين ذاكرة شعرية جديدة تسعفه إذا ما أراد الانطلاق إلى آفاق شعرية جديدة.

من هنا فإن ظاهرة (التناصّ) في شعر الخطي تسجل تحولًا تاريخيًا في مسيرة الشعر العربي في تلك الفترة هي التي تجعلنا نجد تداخل أصوات أبرز شعراء العصر الأموي والعباسي في أصوات الشاعر محاربًا النمطية الشعرية و(الميتافيزيقية) في مجتمعه وعصره:

خلقت لم أدر ما وادي العقيق ولا

دار تأبَّدَ مأواها بماوان

ولا الوقوف على الدارات من أربي

ولا مخاطبة الأطلال من شأني

ولا زجرت غرابًا في تعرضه

ولا أهبت بحادٍ خلف أضعان

ولا وقفت لغادي المزن أسأله

سقي المنازل أفوت بعد سكان

إنه بهذا التمرد الجميل يحاول تأسيس مشروع تجديدي في سياق تلك المرحلة المتخلفة، أو قل: إنه يشكل بذلك مقدمة فنية لنمو تاريخي كان ينبغي أن يتواصل في أصوات الشعراء ممن جاءوا بعده. لو نال نصيبًا من الاهتمام الذي نالـه البارودي هذا الذي كان في منطقة ضوء حضاري وثقافي وإعلامي أبهر مما كان عليه مجتمع الشاعر.

الخروج على المألوف

يتابع الجشي، الملامح العامة لشعر الخطي لا تتعدَّى -على كل حال- الموضوعات المعهودة في تاريخ القصيدة العربية التراثية.. غير ما يمتاز به من وحدة القصيدة التي شكلت مقابلة فنية في شعره أمام القصيدة التراثية المتعددة التي ترتاح إليها النفس من منظور نقدي تراثي لأنها تنتقل بكل الأغراض من مقصد إلى مقصد، فالنفس تمل من الكلام في أمر واحد حسب ما يراه حازم القرطاجني.

أما الخطي فإنه يفعل عكس ذلك حين يكتب عددًا كبيرًا من قصائده على نمط واحد فهو يمدح الأعيان في قصيدة ولـها غرضها المحدد.

ويهجو في ثلاث، يفخر بنفسه -وهو يفعل ذلك في بداية معظم القصائد- في أربع قصائد، ويناجي في اثنتين.. لـه خمس عشرة قصيدة في رثاء العلماء وبعض الرموز الاجتماعية، ويعتب على بعض في ثمان. يتغزل في قصائد عشر بفتيات فارسيات وفي حبيبته سعادة التي أحبها منذ وقت مبكر من عمره. يصف الطبيعة حيث تسيطر -غالبًا- دلالة البحر والنخل في ست وعشرين قصيدة ولـه قصيدة واحدة في الخمر، وأخرى في الحشيشة فقد أباح المتصوفة في مصر -آنذاك- شربها!! لكن الخطي يستخدمها كموضوع شعري كان (مودة) لدى شعراء عصره.. ليذمها في نهاية القصيدة!! من وجهة نظر دينية أما قصائده في الحنين إلى الوطن فتبلغ العشرين.

إن معظم هذه القصائد كانت تجري على نسق واحد تقريبًا غير أن هذا لا يعني أن الشاعر لم يكتب القصيدة على المقاييس التراثية التقليدية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن شعره لم يتخلص من آثار نمطية عصره الشعرية، وبعض عيوبها، وهذا أمر لم يكن يتحقق للشاعر لو أراده.. فكيف به وقد كان يكتب شعره ذاك من داخل خارطة الثقافة التراثية، بل في أكثر مناطقها وعصورها ظلامًا وتخلفًا. بيد أنَّ عوامل عديدة ساقت صوته الشعري إلى الانحراف والخروج على سياق مرحلته، كان من بينها إحساسه الفني بنفاد طاقة الأطر الشعرية -آنذاك- وعدم مقدرتها على التعبير ضمن جمالية القصيدة التراثية النموذجية.. كما هي في أبهى حللـها عن أبي نواس، وأبي تمام والمتنبي، والشريف الرضي، وغيرهم من شعراء القصيدة العربية التراثية.

لذلك فإنه سمح لنفسه أن يمارس شيئًا من الثورة الفنية على مقاييس عصره الشعرية.. التي كانت ثورة تصحيحية.. لا ثورة جذرية.. وهي ثورة نسبية بل متواضعة إذا ما وضعناها في سياق الثورة الشعرية التي قادها المجددون في العصر العباسي لكنها بالنسبة لمرحلة الشاعر المنحطة كانت ثورة ذات بال لأنه على الأقل يثور على بلادة الحسِّ التاريخي والشعري التي كانت علامة بارزة في ذلك العصر، ولذلك فهو ينهج خطى النواسي في الثورة على المقدمة الطللية وعلى الأوصاف الجاهزة الاستهلاكية بأسلوب الطائي كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان صنيعه هذا يدفعه إلى ألا يتحرج من نظم ست رباعيات من الدوبيت على اعتبار أن هذا اللون من المواضعات الجديدة التي حاولت تحرير مواهب الشعراء المطمورة تحت ركام المحسنات وعروض الخليل.

نثرية طاغية

يبين الجشي، هناك قصيدة كتبها الشاعر في هجاء متشاعر الذي نصحه بأن يتعاطى أي عمل ما عدا الشعر. في هذه القصيدة تفاجئنا نثرية طاغية عبرت عن روح ساخرة وحس اجتماعي متوتر، وكأن القصيدة عرض (بانورامي) للنشاط الاقتصادي الشديد التنوع -آنذاك- في هذه المنطقة.

وتأخذ هذه النثرية موقفًا خاصًا في نصوص الشاعر التي تسيطر عليه حين يحرر نفسه من أثقال المحسنات وفخفخة البديع. منحرفًا بهذا الأداء المضاد عن سياق التقليد الشعري الذي ساد عصره إنه يخترق عاجية الشعراء واللغة - إلى حيث يتنفس بالشعر على أرض الواقع والمجتمع، مما يجعل لـهذه الظاهرة النثرية في شعر الخطي نغمة خاصة، وأهمية تاريخية تحددها الثورة على تلك الشعرية المتزمتة، وإشاعة لغة شعرية جديدة نبعت من هموم الناس وحركة الواقع مشكلة تعبيرًا صادقًا عن التحام الناس العاديين.

إن ثورته تكمن هنا في اقتحامه عنجهية ذلك الشعر بأسماء هؤلاء البسطاء. الذين كان يحقق للشعر ولـهم معنى.

(وقال: لما بلغه -رحمه اللـه- من متشاعر بالقطيف بعض الكلمات والمستهل للغنوي.

اعمل لنفسك مثقالًا ومعيارا

واسرر أباك بأن يلقاك عطارا

فقال أبو البحر رحمه اللَّه:

أو فاتخذ لك سندانًا ومطرقة

واعمل متى شئت سكينًا ومسمارا

أو فاتخذ لك منشارًا ومِقشَرَة

وكن كنوح نبي اللَّه نجَّارا

أو صايغًا تسبك العقيان تبرز من

إبريزه للنسا صفًا ودينارا

أو فاتخذ لك مزمارًا ودربكة

وعش لك الخير طبّالًا وزمّارا

أو كن فديتك صفّارًا فليس على

علياك بأس إذا أصبحت صفّارا

أو كن كصاحبك الأدنى أبا حسن

أعني عليا فتى عمران زرّارا

أو فاتبع ابن مهنا في بزازته

أو فامش خلف فتى (شنصوه) قصّارا

أو فاسأل ابن مهنا علم صنعته

مما يفيدك بالدينار قنطارا

أو عالج الأتن من أدوائهن وكن

شروا (خميس بن خضاموه) بيطارا

أو فاقتلع من رشالا الطين متخذًا

منه الجرار وعش في الخط جرّارا

أو فاقتن الأتن واحمل فوقها حطبًا

فخير شيء إذا أصبحت حمّارا

أو فاحمل الفخ واذهب حيث شئت فصد

به لصبية أهل الخط أطيارا

وإن سمعت مقالي فامض متكلًا

على إلهك في (الأبوام) بحارا

وإن ترفعت عن هذا فحي على أسـ

ـتغفار ربك تلقى اللَّه غفارا

أو قيمًا في بيوت اللَّه تسمعنا

أذانك العذب آصالًا وأسحارا

أو منشدًا مدح خير الناس حيدرة

أو قارئًا في نواحي السوق أخبارا

ولا تُلِمَّ بِربع الشعر إنّ له

ظعنًا تأخرت عن مسراه إذ سارا

قد حلقت بنفيس الشعر طائرة

عنقاء مغرب فاقعد عنه إذ طارا

وهاكها كشواط النار لافحة

أثناء قلبك لا تألوه إسعارًا

حنين شاغل

إن المحور الأساسي الذي يشغل بال الشاعر في معظم قصائد الديوان هو الحنين إلى الوطن.

لكن ما هي حدود هذا الشاعر إنه لا بلا حدود!

نعم.. فهو يولد في التوبي.. قرية من قرى القطيف، سنة (970 أو 980هـ) كما يرجح خالد الفرج..

ويتعلم على يد أبرز العلماء القطيفيين.. لكنه يعبر البر فارًّا إلى البحرين.. وهناك يساجل بعض شعرائها وعلمائها الواردة أسماؤهم في فصل «شعراء البحرين والعراق» من كتاب «سلافة العصر» لابن معصوم. ويراسل ويجاري أبرز الرموز الفكرية والأدبية في عصره.. حتى نال تلك الشهرة التي أشار إليها في السبيطية.. فهو الرجل المشهور.. كما أكدت الموسوعات الأدبية التي اهتمت بذكر شعره.. حتى ورد ذكره ونتف عن حياته وبعض شعره في «خلاصة الأثر».

للمحبي «أعيان الأمين» و«أمل الآمِل» للحر العاملي و«سلافة العصر» لابن معصوم. و«نفحة الريحانة للمحبي» و«أنوار البدرين للقديحي».. واشتهرت مجاراته للعاملي صاحب الكشكول.

وفي هذه القصيدة يشير إلى ما يعانيه من (جهل بمقداره) أمام نفر من أعيان البحرين.

إذن.. فهو رجل مشهور.. ولكنه يشعر بالاغتراب الأدبي. حالـه كحال المتنبي.. فهو (يقظان بين نيام).. بل إنه يقسم:

لأفارقن الخط غير معول

فيها على من ضَنَّ أو من جادا

بلد تهين الأكرمين لِلُؤمِها

شروى الزمان وتكرم الأوغادا

بيد أن علاقة الشاعر بوطنه لا تنحصر في هذه العلاقة المجتمعية المضطربة التي تجيء عادة في ظروف خاصة.. وإنما هو يلتزم بمواطنيته التزامًا سياسيًا عمليًا، اضطره إلى الـهرب مع جماعة من أشراف القطيف سنة (999هـ).. ومن هناك تنقل بين شيراز وأصفهان.. بعيدًا عن أهلـه وأصدقائه..

إنه يحن إليهم حنينًا بلاغيًا يذكرنا باستخدامات أبي تمام القرآنية في تركيب الصورة الشعرية:

فارقتكم فَجَعَلْتُ زَقُّومَ الأسى

زادًا وغَسّاقَ الدُّمُوع شَرَابَا

أكَذَاكَ كُلُّ مُفارق أمْ لَمْ يكنْ

قبلي مُحِبٌّ فارق الأحْبَابَا؟

يَا هَلْ ترونَ لِنازح قَذَفَتْ بِهِ

أيْدِي البعاد لِجُدِّحَفْص إيابَا

ويتدفق ينبوع الشعر صافيًا رضيًا، إلى تلك الربوع التي تمتد من القطيف إلى عنك إلى بنكات إلى سيهات.. إلى جد حفص إلى مقاب [والأخيرتان من قرى البحرين].

إنه أول شاعر خليجي يحقق الوحدة العربية في هذه المنطقة -عمليًا وشعريًا- فبعد سنوات طويلة من التشرد والغربة، يعود إلى الوطن، يسبقه طوفان كاسح من الأشواق والعواطف:

هلا سألتَ الرَّبْعَ من (سَيْهَاتِ)

عن تلكم الفتيان والفَتَياتِ

ومَجَرِّ أرسانِ الجياد كأنها

فوقَ الصعيد مَسَارِبَ الحيَّاتِ

ومُجَدَّفَاتِ السفْنِ أدنى برها

من بحرها ومبارك الهجمات

حيث المسامع لا تكاد تفيق من

ترجيع نوتِّي وزَجْرِ حُدَاة

إنَّ (القَطيف) وإنْ كلِفْتُ بحبها

وعلت على استيطانها زفراتي

إذْ أيْنَ جُزْتُ رأيتُ فيها مدرجي

طفلًا وأترابي بها ولِدَاتي

لأجَلُّ ملتمسي وغاية مُنْيَتِي

إني أقيم بتلكم الساحات

فسقى الغمام إذا تحمل ركبه

تلك الرحاب الفِيحِ والعَرَصَات

واجتازت المزنُ العِشارُ فطبقت

بالسقي من (عَنَكٍ) إلى (بَنْكَاتِ)

ويقابل هذا الحنين الجارف شعور حاد بالاغتراب السياسي...

إنه لا يرضى الإقامة بشيراز رغم استمتاعه بجوها وارتياحه إلى وجوه بناتها.. لذلك فهو يتأوه على (أوال) ولا يرضى بأن يبتاع أزقة فارس (بالفيح من عرصاتها والدور) رغم:

إن شيراز بلدة لا يَكَادُ الـ

ـوَصفُ يأتي وإن تناهى عَليْهَا

ليس تدري سُكَّانها أسرور النـ

ـفس يأتي من خلفها أم لديها

لكنها.. ليست عنده.. بأبهج من (أوال) جنابًا ولا يقايض وطن غيره.. بوطنه.. الذي يسكنه هاجسًا وتاريخًا وحياة.

ما كنت بالمبتاع دارة سروها.. يقصد شيراز.. يومًا بفاران.. ولا مقابا.. وهي أماكن في البحرين.

إن الخيوط المتبعثرة هنا - سوف تتجمع في قلوبنا إذا ما استبطَنَّا حالة الذعر التي أصابت شاعرنا حين ضربه طافر من الحوت.. لتتفجر الدماء من وجهه وكرامته الوطنية.. مدرارًا.. مدرارًا.. مختلطة بالبحر وسادَّة الأفق.

وإذا ما علمنا الأسباب وراء فراره من وطنه، متشردًا غريبًا ليصبح ذلك الإنسان الغريب.. الغريب الوجه واليد واللسان.

إن هناك وجوهًا في (القطيف) يخافها وإلا (لما طال بـالبحرين عنك ثَوَائِي) إلا أنّ البحرين التي شكلت امتدادًا جغرافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا وفكريًا لوطنه شرعة مباحة لجملة من الاستعمارات الفارسية والبرتغالية والعثمانية.. التي كانت تتصارع في المنطقة.

لذلك فـالبحرين التي استوطنها.. لا عيب فيها.. غير هذا الشبح الاستعماري الذي طارده بشكل أزلي.. فإذا حياضها شُرَّعٌ لورد الكلب والخنزير.

مما جعلـه يبقى بعيدًا عنها وعن وطنه ليموت غريبًا بشيراز سنة (1028هـ).