يقول التوحيديُّ في مقابساته: «ولو كنا نفقهُ عن الأوائلِ أغراضهم بلغتهم، لكان ذلك... ناهجًا للسبيل،... ولكن لا بدَّ في كلّ علمٍ وعمل من بقايا لا يَقدر الإنسانُ عليها، وخفايا لا يهتدي أحدٌ إليها»

حينَ نُقابِس التوحيديَّ، سنسأل: لو تُرجَم نصُّ عربيّ إلى لغةٍ لا يقرؤها صاحبُ النصِّ نفسه، فكيف سيتعامل المؤلفُ مع نصّه؟ فإن قيلَ إنه -حينئذ- ليس بنصّه. فلِمَ إذن كُتِب اسمه على غلاف الترجمة؟! إنَّه نَصّه وليس بنصه في آنٍ، وهذه لحظةُ (البقايا التي لا يقدر عليها الإنسان) وقد تمثلت في ذاتِ الكاتب هنا، وكأنّه استضافَ نفسه من خلال آخر، وحينَ استُضيف أُخبِرَ بمقولِه الذي ينتمي لغيره. ويكون القارئ لثقافةِ تلك اللغة شارحًا لصاحبِ النص، وهنا يتواصلان من خلال النص، لا بكونه نصا، بل بكونه تجارب؛ إذ الترجمةُ جزءٌ مما اعتبره فوكو تاريخَ العقليات، إلا أنها -من خلال هذا المثال- تتحول إلى حبالٍ معقودةٍ بتجاربِ الأمم الملاصقة بالضرورة لمنتوجات الذات ككينونة كبرى.

ومن ثم يُنظَر إلى ظاهرةِ الترجمة، كالجنون والجنس، وحينئذٍ تتوافر لنا العناصر الثلاثة: شكل معرفة ممكنة، وأرضية معيارية للسلوك، ثم وجود افتراضي لذوات ممكنة. وهذه ما أسماها فوكو (مجالات التجربة).

لكن سيظل سؤالُ الأصلِ شاغلًا الذهن، حتى إنَّ قولَ أمبرتو إيكو: «عندما اقرأ ترجمة شاعر لقصيدة شاعر، فلأنني أريد أن أعرف كيف آلت القصيدة عند الشاعر المترجِم»، يَدلُّ على معنى مزدوجٍ، فهو يَرمي إلى الصيرورةِ وفي الآنِ نفسه، يُلحِّ على الأصل، ويريده أن يكون مجاورًا لنسخته المترجمة، وعلامة ذلك ما كان منه عام 1990م حين كَتَبَ (التأويل والإفراط في التأويل)، من جَرّاء تَأويلٍ -لم يخطر بباله- أجراه النقادُ على روايتيْه اسم الوردة، وبندول فوكو، وذلك حين مالت نفسُه للانحيازِ لتضييقِ نَصِّه، وفي الآنِ نفسه يتصدّر كناقدٍ يضع نظريةَ (النصِ المفتوح). وهنا تأتي ذكرى نيتشه وهو يزحزح أصلا ثابتا، ليحكي عن أصلٍ يتأسس.

‏لهذا فإنَّ لفظَ (الحكمة/الفلسفة) قد يُسَاعِدنا في وضعِ بعضِ الإشارات لما نرمي إليه؛ وذلك بسؤالٍ مُتَفرّع: هل تَلقى العربُ لفظَ (فيلو-صوفيا) بأصلٍ ثابتٍ؛ أعطوه مضامينَ الحكمة، التي تلقوها من آية (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)؟ وما أفق ترجمتهم للفظة المركبة؟ وهل ثمة أصلٌ يتأسس؟

العرب تقول: (حكيم والحكيم) فهل تقول: «فلان يحب الحكمة» على أساس أنها نوالٌ لا يُطال؟. الخلاف المهم -في سياقنا- في أصل اللفظة عند الإغريق أن لفظةَ (صوفيا) طردها أفلاطون -في محاورة كراتيلوس- من المعجم اليوناني، وأحالها إلى (البرابرة)، وهذا اللفظ لا يُحَدِّدُ مكانًا، بل شعوبًا دُنيا غير الإغريق، وسيكون منهم المصريون؛ لهذا قال مارتن برنال: «إنها مشتقة من لفظٍ مصريٍّ قديم، وتعني تعليم/يعلم». مع أننا نجد لفظ (صوفوس) موجود عند هيراقليط -وهو يسبق أفلاطون زمنا- في شذراته، بمعنى الحكمة، ويزامنُه لفظُ (philosophein) وتعني التفلسف.

ويستوقفنا هنا أن يكون لفظُ (صوفيا) يعني التعليم؛ منتميًا لمصر القديمة، على سبيل أنَّ ما يُعلَّم داخل في إمكانيةِ التحقّق؛ لهذا عَبّرتُ عن فعلِ أفلاطون بالطرد، وذلك للوصول إلى اكتمال دائرة الادّعاء في مقولات أستاذه سقراط، إذ إنَّ سقراط يقول من المستحيل بلوغ المعرفة الخالصة في الدنيا، بل فقط في ما بعد الموت. وما يُدرك في الدنيا هو بعض المعرفة، لهذا كان يقول: «كلما قابلتُ حكيمًا أثبتُّ له أنه ليس بحكيم». وكان يردد «أنا لستُ حكيمًا». إلا أنَّ لا وعيه في الادعاء يُستَنطَقُ من خلالِ مقُولِه: «وأريد أن أثبتَ أنَّ نبوءة العرافة غير صحيحة؛ حين تنبأت أني أحكمُ أهل أثينا...» .

ومرادي أنَّ خطابَ سقراط مزدوجٌ بين ظاهرٍ وباطن، فالظاهرُ أصلٌ ثابتٌ لا يُعلم، بل يُنشد من خلال مراحل الحياة حتى تتجلى بالموت، والباطنُ أصلٌ يأخذ بصيرورةِ الحياةِ؛ ليدعم الخطابَ الظاهر، فيَنتجُ عنه معنى مُستتر؛ وهو أنَّ سقراط هو الحكيم؛ لهذا ربطَ مقولَه بنبوءة.

لهذا فإنَّ تلقي الثقافات -لاحقًا- للفكر الإغريقي، جعل من السوفسطائيين هم المدّعُون، بقولهم حكماء، وسقراط متواضع للمُطلَق، فهو يحبُّ الحكمةَ وليس بحكيمٍ. بينما الباطنُ هو العكس، وهذا يحيلنا للعربِ حين يُعرِّفُون السوفسطائيين بأنهم «الذين يرون أنه لا حقيقةَ لشيءٍ، ولا علم بشيء» فكيف سيدّعي السوفسطائيون الحكمةَ؟ وبأي معنى؟

لهذا كانت الحكمةُ عند العربِ صفةً يتّصفُ بها الإنسانُ، ومن ثمّ تحولت اللفظتان (فيلو-صوفيا) إلى لفظةٍ واحدةٍ، بقوةِ التصريف العربي، الذي لا يعني المعنى اللغوي الظاهر فحسب، بل يتجاوزه إلى معنى أعمق، وهو ما ذكره ابنُ جنّي في التصريف وهو «أن تأتي إلى الحروف الأصول فتتصرف فيها بزيادة أو تحريف» ولم يَغفَل ابنُ جنّي عن الاعتراضاتِ التي وُوجِهَ بها كقول «إنَّ الصرفَ هو معرفة القوانين التي تُمكّن من إنتاج الكَلِم، وقوانين تغييرها». حيث لم يُرِد ابنُ جني أن يُشيرَ إلى القوانين/الأصلِ الثابت، بل أرادها أصولًا تتأسّس (أن تأتي إلى).

وهنا نكونُ أمامَ تصريفٍ للكلمة، وتَحوُّلٍ من فلسفةٍ إلى تفلسف، في آنٍ واحد. والمرادُ أنَّ التلقي العربي تواصلَ مع الإغريق في مفهوم الأصلِ الثابت، لكنَّه لم يجعله للحكمةِ/الفلسفة، بل لمعنى الإسناد/النص، ومن ثم كانت الفلسفةُ منطقةً وسطى يُعالجُ بها النص/الرواية؛ وكأنَّنَا أمامَ استعادة للإلياذة والأوديسة لهوميروس، والتيوغونيا لهزيود، المشروعِ الفكري/الديني عند الإغريق، استعادةَ الترجمة بوصفها تجربة، لا استعادة المعنى الديني بذاته، وهنا دخلَ العربُ في صراع التأسيس لمفهوم الفلسفة، والخلافات الجذرية التي سالت بها الأحبار؛ فيتجلى مفهوم الترجمة بالمعنى الذي أشار إليه فالتر بنيامين حين قال «إنها تزحزح الأصل عن موقعه وتجعله يفصح عن حنينه إلى ما يُتمِّم لغته ويكمل نقصها».

وظل لفظ (فلسفة) عَطِشًا حتى وُصِلَ بفلسفةِ عصر النهضة الأوروبي إلى أن عادَ عودا مُتجدّدا بالتفلسف الما بعد حداثي؛ إذ سنلحظ أنَّ لفظة التفلسف -هنا- تُعيدنا إلى المعنى المزامن لهيراقليط (philosophein).