إن العنصرية البيضاء، هي من أشنع العنصريات في تاريخ الوعي المتحامل، ولحسن الحظ أنها إذ تجاوزت كل الحدود المسموح بها للحيف والتزوير، لم تلبث أن صدمت وعي الإنسان، الراقد في أغشية المفكرين البيض أنفسهم، فجردت فريقا من سلاح التبرير، وأزالت القناعات الموروثة من فريق آخر، بينما اندفع فريق ثالث للمقاومة في ظروف مستجدة، شهدت نمو حركات التحرر، وتفاقم شأن الثورة العالمية المناهضة لسلطة رأس المال، وقد بدأ الخرف العنصري يتلقى الضربات الفاضحة منذ كارل ماركس، الذي أيقظ الوعي الأبيض، وجعله ينظر عن كثب لما ينطوي عليه من قذارات، ومن ذلك الوقت والعنصرية تتراجع، أو على الأقل تتوقف عن التقدم ولكن دون أن تلقي السلاح، ولا تزال الحرب سجالا في عقر دارها بينها وبين النفر الواعي، الذي ساعدته الظروف العالمية الجديدة على استعادة بشريته.

وبين أيدينا كتاب يحمل عنوان Racesm and secism in childrens Books العنصرية والجنسوية في كتب الأطفال - نشر في لندن 1979 يشتمل على مقالات لعدد من الكتاب الإنجليز والأمريكان، تعالج المحتوى العنصري المعادي للشعوب غير البيضاء، والجنسوي المتحيز ضد المرأة في أدب الأطفال الشائع في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتكشف المقالات في صدد الجنسوية عن المنحى الرجعي المعادي للمرأة، في منظومة الوعي الثقافي والاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، ولهذا المنحى حديث آخر، أما الآن فنستعرض التوجيه العنصري الذي يتزود به الطفل الأبيض، من خلال الكتب الأكثر التصاقا بمزاجه الطفولي، والأكثر رواجا في مضمار أدب الأطفال.

صدرت في السنوات الأخيرة أقاصيص جديدة، أو طبعات منقحة لأقاصيص سابقة، تعاملت مع الشعوب غير الأوروبية بأسلوب مخفف، لمراوغة الشعور العالمي السائد، المضاد للعنصرية البيضاء. وقد تناول الناقد شوارتز، الذي ساهم في الكتاب بعدة مقالات، أحد هذه الأعمال وهي مجموعة باميلا ترافرز المعنونة «ماري بوبنز»، التي صدرت سنة 1934 ونقحت في طبعة 1972، بناء على طلب المؤلفة لتنقيتها من المحتوى العنصري.. وقد انصبت ملاحظات شوارتز على المجموعة بعد التنقيح. وفي لقاء له مع المؤلفة العجوز، ذكرها بعبارة في إحدى الأقاصيص تخاطب بها المس لارك «من شخصيات الأقصوصة» كلبها للابتعاد عن الكلاب الأخرى:

أندرو، أندرو، ادخل يا حبيبي، ادخل، ابتعد عن هؤلاء المخيفين.. عرب الشوارع. وأجابته متضاحكة:

أتراه اصطلاحا مهنيا؟ عرب الشوارع؟ هناك عرب شوارع في المغرب، أليس كذلك؟ أولاد صغار يتراكضون هنا وهناك يستجدون الحشيش، أتريد محاكمتي حسنا! لقد استعملتها ولا أفكر في تعديلها..

ويبدو أن الناقد الطيب شوارتز كان مؤدبا مع هذه العجوز البيضاء، فسكت على مضض، ولم يسألها عما إذا كانت قد طلبت تنقيح هذه الأقاصيص لأنها تابت من عنصريتها، أم خوفا من اليسار الذي لم يعد أمثالها قادرين على مقابحته بنفس الأسلوب السابق؟.

غير أنه وجه الانتباه إلى هذا الإصرار العنصري في سائر الطبعات، التي بقي فيها أناس «العالم الثالث» رموزا للسلوك الخاطئ أو غير اللائق، في مقابل النموذج الوطيد للإنسان الأبيض.

ولنقرأ هذه العبارة التي صدرت عن إحدى شخصيات «ماري بوبنز تعود» 1952:

لا تخط خطوة واحدة خارج هذه الغرفة عصر هذا اليوم، وإلا فإنني صيني! سر بجانبي، رجاء، سر كالمسيحي

وفي «ماري بوبنز في المنتزه» 1953:

ويذكر شوارتز أن العجوز ترافرز أبدت انزعاجها عندما علمت أنه لم يقرأ قصة السعدان الصديق، وبادرت هي لتلاوة فقرات منها عليه، تدور حول الآنسة برون بوتر، وهي مستكشفة سابقة ألمت باحدى جهات إفريقيا، فوقع نظرها على صبي أسود ملقى على ضفاف نهر توما، وقد اقترب منه تمساح يوشك أن يلتهمـه وأسرعت الآنسة إلى إنقاذ الصبي، وحينما علمت من بعد أن أسرته هي التي ألقت به على النهر، لأنها خافت أن يكون أطرش، قررت أن تأخذه معها الى إنجلترا، حيث ربته بعد أن أعطته اسما، لأن الأفارقة لا يحملون أسماء شأن الحيوانات!

قال شوارتز: سألت المس ترافرز إن كانت لا ترى في تخلي أسرة سوداء عن ابنها وإطعامه للتماسيح، لمجرد الشك في أنه أطرش إهانة للآباء السود؟ فأجابت إن هذه ممارسة فعلية لقبيلة «فان» التي ينتمي إليها الصبي.

ومن الواضح أن الكاتبة العنصرية تردد هنا نفس الأكاذيب، التي نقلها الرحالة والمستكشفون البيض عن إفريقيا، وتوظفها لتعزيز الخط، الذي رسمته الدعايـة الغربية، بين همجية السود وإنسانية البيض.

1982*

* مؤرخ ولغوي عراقي «1932 - 1998».