الكتابةَ لعبةٌ يوميةٌ مع الموت ــ كما يقول نزار قباني ـــ فهذا يعني أن القارئ يشترك في اللعبة، لا ليموت بل؛ لسيتمر بالحياة. هذا ما يضعه بين أيدينا الناقد العراقي كه يلان محمد في كتابه الصادر عن دار صفحة 7 في المملكة العربية السعودية بعنوان (كهف القارئ). ويحلينا العنوان إلى تساؤلات: ما هو جنس الكتاب الأدبي؟ رواية؟ أم دراسة نقدية؟ وهذه الأخيرة تبقى حبيسة المنهج وهو يرمي بقيوده على العنوان أيضاً، فالمنهج يقيّد النصَّ والباحث والعنوان، ويفرض معياريته، ومصطلحاته، فهل هذه تلقي القارئ بكهفها؟ وتُعتم عليه النص؟

للناقد كه يلان رأي آخر بهذه القضية، فهو حرر دراسته النقدية من المنهج ابتداء من العنوان الذي فيه صورة أدبية. وقد يقول قارئٌ مختص بالنقد كيف تسير الدراسة بلا منهج؟

بحسب ما أعتقد أن ليس كل نص أدبي يمكن أن يخضع لمنهج معين، ولا سيما إن كان النصُّ مراوغاً، أو آخر له خصوصية بالتعامل، والنقد موهبة مع توظيف المعارف والأدوات وهذا ما نجده في كهف القارئ.

إن صاحبه ألقى بدلوه على مشكلات أدبية، طرأت مع صعود الرواية على المسرح الأدبي في العالم، فمن بينها (اكتساح الرواية المشهد الثقافي وعزوف القراء عن متابعة الشعر)، ويفصّل المؤلف في الأسباب، بعنوان وضعه لهذا الموضوع (الرواية في المتحف)، فمعروف أن المتحف لا يحفظ سوى الثمين الذي مضى عليه قرون، وكأنَّه يرى بأنها ستكون كذلك أمام الشعر الذي غاب بشكل نسبي، لكنَّه يبقى ابن المنصة.

فتحليق الرواية عالياً وإقبال القراء عليها، واهتمام الإعلام بها، عزاه لأسباب كثيرة.

وأظّن أن المساواة بين الرواية والشعر تتطلب جهود مؤسسات ثقافية، واهتماما بالجانب التسويقي، فالجهود الفردية لا تحرك السواكن كثيراً. بالمقابل (يبقى الشعر مهنة الاحتراق والإحراق) مهما زاحمه جنس أدبي آخر.

يضعنا كه يلان أمام نفسه! بعنوان (هل انتهى دور الناقد؟) إن هذا التساؤل هام؛ بعد صدور شكوى كثيرة من الأدباء الذين لم ينصفهم النقد فهل انتهى دوره؟

يرى صاحب كهف القارئ إن (المنصات الرقمية تحولت إلى أدوات تمكن المهمشين من التعبير عن همهم، فنشأ بالتالي خطاب جديد مقابل ما سمي بالخطاب النخبوي)، وبعبارة أخرى: نشأ خطاب جماهيري يوازي النخبوي، لكن تغيب عنه روح العقلانية، وتحضر العاطفة فيه.

وما يوضحه أكثر كه يلان هو أنه صار للناقد دور محدود؛ بسبب ما (ينشره الروائيون على صفحاتهم مما قاله القارئ العادي عن إصدارتهم الجديدة إضافة إلى أن المقتسبات المتدولة تكون دافعاً لمتابعة العمل الروائي بأكمله؛ مما يعني وجود عناصر جديدة لتشكيل الذائقة والوعي بالأثر الأدبي ) ص 50.

إن هذا الرأي لا يخلو من الدقة، ويمكن مناقشته من عدة جوانب، فالأول: إن جمهور القرّاء وما يكتبونه من رأي انطباعي، قد يصادر حرية الكاتب، ويوقعه بسجن ذائقتهم، فتصبح كتابته رهن ذوقهم، فلا يستطيع التحليق أعلى، ومن جانب ثانٍ لا يمكن الانقلاب على الكتابة؛ لأن حريته الفكرية، ولغته بيد جمهوره، والكتابة التي لا تحدث انقلابا لا يعول عليها ــــ بحسب ظني ــــــ وصناعة الرواية مهنة شاقة كما يرى مؤلف الكتاب عندما أفرد موضوعا بعنوان (أمبرتو إيكو آراء حول صناعة الرواية)، فصاحب اسم الوردة يرى (أن جميع الكتب الفلسفية من جميع العصور قابلة للتحويل إلى بنية فلسفية). وكه يلان لم يورد هذا الرأي عبثياً وإنما جاء من رؤيته التي يرى فيها أن الفلسفة أساسٌ الأدب والحياة، وهذا ما يميّز كتابه، إذ اختار الروايات العالمية والعربية التي لا تخلو من نفس الفلسفة، وهذه الأخيرة همست بإذن آرائه النقدية وتحليلاته التي تصب في جوهر الفلسفة الرواقية، والوجودية، في موضوعات عديدة من الكتاب كما في (الجدل الفلسفي في رواية السقوط) لكامو، و (نيشه فيلسوف مغترب) و (آرثار شوبنهار والنصف الثاني الفارغ من الكأس).

كما يحضر التحليل النفسي، والأدوات السردية في الكتاب، بلغة رشيقة، هجر فيه المصطلحات الصعبة، لأن المؤلف وضع القارئ غير المختص نصب عينه، وكأنه يريده أن يدخل إلى عالم القراءة ولا يخرج منه وهو ما سمّاه كهف القارئ.

* ناقدة عراقية.