الأربعاء الماضي، الثاني من شهر ربيع الأول، صادف مناسبة الذكرى الـ «71» لرحيل والدنا جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، وكنا قبل أربعة أيام من هذه المناسبة نعيش ذكرى اليوم الوطني المجيد، جعلنا الله من القائمين بحق والدنا علينا، وأدام على بلادنا أمنها ورخاءها.

مآثر ومأثورات جلالة الملك عبدالعزيز كثيرة جدًا،

وبحسب اهتمامي تستوقفني كثيرًا مأثوراته الفكرية، ومن أبرز ما استحضره قوله- رحمه الله رحمة واسعة- في خطابه الافتتاحي الشهير للمؤتمر الإسلامي، قبل قرن من الزمان بالتمام والكمال: «إن المسلمين قد أهلكهم التفرق في المذاهب والمشارب، فائتمروا في التآلف بينهم، والتعاون على مصالحهم ومنافعهم العامة المشتركة، وعدم جعل (اختلاف المذاهب والأجناس) سبباً للعداوة بينهم؛ قال تعالى: {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَة ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}، وبعد عامين، وجّه رحمه الله، بيانًا خاصًا للمؤتمر السالف ذكره، جاء فيه: "إنا لا نُكْرِه أحدًا على اعتناق (مذهب معين)، أو السير في (طريق معين) في الدين..".


الاقتباسات واضحة، والألفاظ كما الشمس في رابعة النهار، ومنها فهم العقلاء عدم منع أحد من أمور جائزة في مذهبه، ويدخل في ذلك ما يبيحه أي مذهب، حتى لو كان ممنوعًا في مذهب آخر، كما فهموا أيضًا أن على فقهاء كل مذهب توجيه أتباع المذهب إلى مواضع الوفاق، وتجنيبهم مواضع الخلاف، وفهموا كذلك أن ما يقرره جميع علماء المذاهب الإسلامية أنه من البدع والخرافات، يعد منها، وعندما يقول فريق من العلماء إنه منها، ويقول فريق آخر إنه ليس منها، فحينئذٍ لا تصح الموافقة على إلزام الناس بالترك أو الشجب.

من المواقف الفكرية المؤثرة لوالد البلاد- رحمه الله- وقوفه بكل حزم ضد (غير الحكماء) من البشر، يذكر خير الدين الزركلي في كتابه الشهير "شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز"، في صفحة 475 تحديدًا، قصةً رائعةً نصها: "كنت مساء يوم في مجلس الملك، على سطح المربع- القصر المشهورـ فجاءه بعض المشايخ فعرضوا عليه رسالة مخطوطة في بضع صفحات، يستأذنونه في نشرها، موضوعها الرد على الشيعة، وفيها كثير من المطاعن وإثارة الشحناء، فوعدهم بالنظر فيها، وانكب بعد الصلاة في الصباح على إصلاح الرسالة بقلمه، وأقبل الجماعة فلاطفهم، وقال لهم: إنكم (أصحاب دين، ولستم أصحاب سياسة)"، ونقل الزركلي عن حافظ وهبة، في ذات الموضع، قول جلالته -رحمه الله- للمشايخ عام 1331 لما علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض مدن نجد: "إخواني المشايخ، أنتم الآن فوق رأسي، تماسكوا، بعضكم ببعض، لا تدعوني أهز رأسي، فيقع بعضكم أو أكثركم، وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض، لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرةً ثانيةً".

هذه قبسات من نهج والد البلاد، عدت إليها في ذكرى رحيله، لأذكّر المشغولين، أن هذا النهج (الجمعي غير الإقصائي)، كان السبب في حفظ الله، لبلادنا المباركة، من الاضطرابات القديمة، وهو النهج الضامن لها بالمضي قدمًا في (فلسفة التمكين) التي يقوم بها سيدي خادم الحرمين الشريفين- حفظه الله ورعاه- و(فلسفة التحديث) التي يبذل فيها كل جهده سيدي ولي العهد الأمين، أعانه الله في ما مضى، وفي ما هو قادم، وجدد سبحانه وتعالى، رحماته على موحد بلادنا؛ اليوم وكل يوم.