مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وتفشي استخدامها وسط مختلف الفئات العمرية، بدأت تظهر مشكلة الشخصيات الافتراضية التي تمارس سلوكًا أقرب ما يكون لانتحال الشخصية، والتخفي وراء صورة مصطنعة، فالكثير من الذين يوجدون على هذه المواقع بانتظام يمتلك الواحد منهم عددًا من الإيميلات وحسابات على تلك المواقع، بأسماء مختلفة وعناوين وهمية وشخصيات زائفة.

ربما لا يرى البعض مشكلة في ذلك، بدعوى أن ذلك من الحرية الشخصية، وقد يكونون على حق، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار تعدد تلك الوسائل التي تتفاوت ما بين فيس بوك، وتويتر، وانستجرام، وسناب شات، وغير ذلك، إضافة إلى تعدد المهام والأعمال المختلفة.

كذلك عرفت الصحف العربية في فترات متفاوتة كتَّاب أعمدة يوقعون مقالاتهم بأسماء مستعارة، ولكن تلك الشخصيات كانت معروفة للقائمين على الصحف ومجالس إداراتها، ولم يكن الهدف من إخفاء حقيقة الأسماء للتمويه أو الخداع، كما أن الأفكار التي كانوا يبثونها والمواقف التي يروونها هي في غالبيتها قضايا عامة أو مواقف طريفة.

لكن ما أريد تسليط الضوء عليه هنا هو حالة مغايرة، حيث يختفي شخص ما خلف شخصية مغايرة لشخصيته، ويبني علاقة صداقة مع شخص آخر يتبادل معه الحديث بخصوصية تامة. ومما لا خلاف عليه أن الإنسان يتوجب عليه، أخلاقيًا على الأقل، أن يظهر أمام الآخرين بشخصيته الحقيقية ما دام يتعامل معهم بصورة فردية، لأن انتحال الشخصية المغايرة قد يفتح العديد من الأبواب للاحتيال على الآخرين أو خداعهم.

كذلك فإن السؤال الذي يتبادر للأذهان هو عن دافع الشخص امتلاك عدة حسابات يظهر في كل منها باسم مغاير وشخصية مختلفة عن الأخرى، فيكون في هذا الموقع شابًا في العشرينيات، وفي الأخرى فتاة رائعة الجمال، وفي غيرهما رجلًا وقورًا ينادي بالفضيلة ويتمسح بمكارم الأخلاق وهو إلى كليهما أحوج ممن يدعوهم.

الجانب الآخر الأكثر أهمية من وجهة نظري هو أن غالبية مستخدمي تلك المواقع هم من فئة الأطفال وحديثي السن من الجنسين، ممن يسهل خداعهم والتغرير بهم، وهناك حالات كثيرة من الاحتيال والتغرير التي تعرضوا لها وهو ما لا أرى حاجة لتأكيده.

ربما ليس كل من يرتكبون ذلك الفعل ممن يريدون الخداع والاحتيال، وربما يفعله بعضهم من أجل التسلية وقضاء الوقت أو لزيادة عدد المتابعين، وتحقيق أقصى قدر من المتابعة مما يزداد معه المقابل المادي، لكنه يبقى في الآخر نوعًا من الكذب المذموم الذي يسقط المروءة ويوقع في المحظور.

وتشير دراسات نفسية حديثة إلى أن أصحاب الشخصيات الافتراضية هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة مستقبلًا بمرض انفصام الشخصية، لا سيما إذا ظلوا على تلك الحالة لفترة طويلة، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء يميلون إلى مجافاة واقعهم الحالي ويلبسون ثياب الشخصية التي يرون أنها تلبي أحلامهم، وهذا أحد أنواع الهروب من صعوبات الواقع بدلًا من مواجهته والوصول إلى الصيغة المثلى المرضية.

ربما يتساءل القارئ الكريم عن كيفية حل هذه المشكلة، وما إذا كانت هناك نصوص تشريعية تعاقب هؤلاء أو تصنّف ما يقومون كأفعال محظورة، ولكن للأسف لا توجد هذه النصوص، ومع أن القوانين تمنع الإنسان من انتحال شخصية غير شخصيته في العالم الواقعي إلا أنها تتغاضى عن المشكلة نفسها في العالم الافتراضي، أليست هذه أيضا مفارقة غريبة؟ فالفعل هو الفعل ذاته، لكنه ممنوع هنا ومسموح هناك.