يبدو أن التسارع والسرعة في التطور والتقدم التقني بدأ الدخول في صراع مع حياة الإنسان المحكومة بالمشاعر والقيم، ليتجاوزها بمفهوم جامد، يقدم آليته الصرفة على العواطف الإنسانية كافة، وكأننا بين خيارين إما العمل بسحق إنسانيتنا، أو أن ننتصر لإنسانيتنا مقابل تعثر العمل، وكلا الخيارين هما أداتا جلد معنوي وحقيقي لأي إدارة تسعى للنجاح والتنافس كمنظومة عمل. حتى مع تولد لجان متواضعة لأشد الحالات الخاصة والظروف الاستثنائية، إلا أننا نجد أنها هي الأخرى بدأت تنصهر شيئًا فشيئًا في الآلية الجامدة نفسها، التي صنعها الإنسان لنفسه بعقيداتها وإجراءاتها كافة. وأحيانًا تجاوزاتها عن بعض الحالات الخاصة، أو بتناقضها وتضاربها مع ضوابط العمل الصارمة.

والأمثلة على ذلك كثيرة، كنت قد شاهدت طالبة في عمر التسع سنوات من أبوين منفصلين ترعى وتهتم بباقي إخوتها الخمسة الأصغر منها، شاهدت مدى تعثرها الدراسي رغم محاولاتها المستمرة للحاق بباقي أقرانها، ومحاولة رعاية أصغر إخوتها ذات الأربعة أشهر والتي كانت دائمًا ما تسأل عن كيفية الاهتمام بها إذا مرضت أو جاعت بحكم وضعها الاستثنائي، إلا أن العديد من الأنظمة لم تتكيف مع ظروفها، لولا وجود تعاطف إنساني بحت من محيط مدرستها، للأخذ بيدها في اللحاق بأقرانها وبناء مستقبلها. ليست هذه الحالة لوحدها فقط، فحتى مع بداية التعلم عن بعد أثناء جائحة كورونا، كان الجانب الإنساني له دور كبير مع الحالات التي لا تنطبق عليها (شروط الدعم) آنذاك، في توفير أجهزة تواصل إلكترونية ومواصلة التعلم.

تغليب الإنسانية على الأنظمة المعتمدة على التقنية في معظم الأحيان يكون ضرورة ملحة لمواصلة سير الحياة بشكل طبيعي وسليم، ويضمن عدم تعثر الإنسان أمام الظروف الحياتية الطارئة، خاصة أن معظم هذه الظروف لا إرادية ومصير قد نجد أنفسنا محاطين به دون اختيار.

كنا دائمًا ما نسمع ونكرر بوعي غائب، عن المريض «النفسي» أو «ذوي الاحتياجات الخاصة» بأنهم ليسوا هم أصحاب المعاناة الحقيقية وحدهم، بل المحيطين بهم وأشد الناس قرابة واهتمامًا بهم يشاطرونهم المعاناة، إن لم يكن مجملها. وهذا صحيح إلا أننا في واقعنا العملي والحياتي لا نطبق هذا الوعي تحت أي منظور، فلا نتعاطف ونشعر مسؤولية تجاههم إلا بعد حالات انهيارهم وانتحارهم، بل حتى هذا التعاطف ربما يكون نابعًا من (شفقة)، لا تستدعي سوى الحمد على عدم الابتلاء. وليس الكل سواء، فيتقبل هذا التفضل أعني (الإشفاق)، فالبعض يتعفف، والبعض يتسوله.

بينما في الأصل يفترض أن تكون لهذه الحالات حق إنساني يراعى بتذليل الأنظمة المعيقة لتقدمه وجودة حياته، أو على الأقل تلك التي تساويه بالإنتاج الوظيفي مع موظف لم تتهيأ له تلك الظروف الصعبة، سواء في عدد أيام الاستئذان من العمل، أو الحد المسموح له بالغياب الاضطراري، أو بالانضباط الحضوري والانصرافي في العمل، أو في سنوات الخدمة التي يقضيها حتى يستحق التقاعد، وما إلى ذلك من إجراءات إنسانية تحسن ظروفه المعيشية بامتيازات تشكل دفعة إيجابية ومعنوية له ولمحيطه الأسري والمهني، وبالتالي عليه وعلى عمله كموظف منتج.

تتحدث معي إحدى الزميلات باستمرار عن معاناتها اليومية قبل حضورها للعمل والانصراف منه، وذلك أثناء إدخال ابنها (التوحدي) كل يوم لمدرسته، وعودتها متأخرة للعمل مع مواجهة نظام البصمة، أو التوقيع، أو الخط الأحمر ومع معاناة مستمرة في توضيح سبب التأخر والذي لا يتفهمه إلا من كان في قلبه ذرة إنسانية، ومعاناة أخرى في عدم تفهم الإدارات المهنية في المدارس (تحديدًا)، مع جدول المناوبة الطلابية أثناء الانصراف من المدرسة، مما يضطرها للبقاء ساعات بعد الدوام، وحل هذه المشكلة بتغييب طفلها التوحدي عن المدرسة في ذلك اليوم، وما زال البحث جاريا عن حل لمشكلتها التي انصهرت في روابط تقنية وإرفاقات صادرة وأخرى واردة، وأنظمة حادة وبطيئة لا تعترف بالمرونة والسرعة، ولا تحتكم للإنسانية لتبتكر لها حلولًا جديدة ومتقدمة.

ختامًا.. إن وتيرة الحياة السريعة بفضل تطور التقنية، فرضت كمًا كبيرًا من التعليمات الصارمة والدقيقة التي قد لا تنطبق على جميع الظروف الحياتية للإنسان، فقيدته بأنظمة موحدة أنهكت طاقته، وفضلًا عن أن تكون عونًا له، باتت اليوم معيقة له ولتقدمه، خاصة بتقييدها الزمني في التقديم والإرفاق لحالات خاصة تحتاج قراراتها بتًا فوريًا وعاجلًا.